قمت في جوف الليل ملبيا نداء ربي.أعطيت لكل عضو من أعضاء الوضوء حقه.وضعت السجادة أمامي.رفعت يدي بتكبيرة الإحرام.سمعت طرقا عنيفا مصحوبا بصراخ حاد:
افتح الباب...افتح يا ابن ...
حين دنوت من الباب مذعورا، رأيته، وقد انشطر شطرين. فدلف إلى قلب المنزل رجال مقنعون يشهرون مسدسات. يصيحون في وجهي ( أن اجث على ركبتيك، و ضع يديك خلف رأسك). ربطوني بأصفاد . غطوا عيني بعصابة سميكة حجبت عني الرؤية، لكني كنت أعلم أن الجيران يشرئبون بأعناقهم من الأبواب، و نظاراتهم المتسائلة تتدلى من الشرفات و النوافذ، و على الرصيف يقف تجار المخدرات ، و الخمور،و اللحم البشري الرخيص يلقون بالتحيات إلى رجال الليل آمنين.
من خلال الروائح النتنة التي تقصف خياشيمي عرفت أني محشور في مرحاض قذر.أحسست بيد ثقيلة تمسكني بعنف من رقبتي،و تدفعني بقسوة إلى حيث لا أدري. وجدت نفسي في مكان بارد، تمتزج فيه رائحة الدم برائحة براز آدمي. حرروا عينيَّ من سجنهما.انتصب أمامي رجل قبيح الخلقة. حدجني بعينين حادتين كما لو كنت خائنا باع وطنه لعدو غاشم.وضع أمامي حاسوبي المحمول الذي صادروه أثناء اقتحام البيت. طلب مني أن أقرأ الإيمايل على الشاشة:
إمامي
طالت غيبتك
هزني الشوق للقائك
عجل بعودتك.
أضفى المارد الذميم على وجهه ملامح قاض من قضاة محاكم التفتيش. رشق أذني بكلمات بذيئة، ثم خاطبني:
- تناجي إمامك. تتمنى عودته. اعلم أنك لن تعيش هذا المشهد أبدا ، لأننا سنفصل روحك عن جسدك قبل أن ترى ذلك اليوم.
رغم جدية تهديداته،ارتسمت على شفتي بسمة ساخرة.استشاط غضبا. راح يلعن عليا و الإمام الغائب، و حزب الله، و الفرس الملاعين. قبل أن أشرح له أن الأمر يتعلق بمزحة، نزلت على رأسي خبطة قوية.أحسست بمخي يرتج،و غشي الضباب عيني، و رحت أخاطب نفسي:
- مجرد مزحة مع صديق عزيز؟!من سيصدق هذا الكلام؟ سيسحقون عظامي من أجل أن ينتزعوا مني اعترافا على مقاس رغبتهم.
لم يطل الصمت السميك الذي ران عى المكان، حتى جاءني صوت قاس من رجل ذابت ملامحه في ركن معتم:
- أيها الرافض. تخرج عن إجماع الناس في بلدك.و تتبع دين المجوس، أنت الآن على كرسي الاعتراف, و لن تنفعك اليوم تقيتك.
غادر العتمة، كان يسدل لحية طويلة،أدركت فيما بعد أنه فقيه تستعين به الشرطة في تحقيقاتها.( ليته نظر إلى قلبي الشفيف، ليتأكد أنني لا أخفي شيئا. و ليعرف أن مذهبي هو الإسلام بكل طوائفه). اقترب من الكرسي الذي أجلس عليه. لم أنبس ببنت شفة. قرص شفتي السفلى و مطها بعنف، ثم قرب منها أذنه اليمنى. أدركت أنه ينتظر مني اعترافا.
قررت أن أرفع من حدة توتره، فخاطبته بصلابة، ربما لم يكن ينتظرها:
- ما أغربكم تدعون إلى توحيد الله، و تزرعون الفرقة بين الناس، و تسجنون الإيمان في زنزانة مذهبيتكم المقيتة، حتى أصابنا عمى مطلق حجب الله عن أعيننا خلف عجاج التحريض...
قاطعني ساخرا. قهقه قهقهة عالية حتى برزت نواجده:
- قل لي إذن أيها الشاطر: كيف تعبد الله؟
لم أتأخر في الرد:
- كما تفعل باقى المخلوقات. تهفو إلى خالقها. تعبده أناء الليل و أطراف النهار، دون أن تفسد عبادتها بداء المذهبية. أغبطها في عبادتها الخالصة لله الواحد الأحد.
وجد كلامي مضحكا. تقدم نحوي بوجهه المتجهم. و قال ساخرا.
- لكن أخبرني أيها الذكي كيف عرفت أنها...؟
فهمت المقصود من سؤاله. فقاطعته:
- لا يقتل بعضها البعض على الهوية...لا تذبح بعضها تقربا لله... لا تُحل دم بعضها بالفتاوى الدموية...لا ينفجر انتحاري في أسواقها الآهلة بالعباد المخلصين...
استفزه كلامي.خبط الطاولة بيده الغليظة. إمعانا في إغاظته. واصلت استفزازه:
- افعل ما بدا لك، يمكنك أن تمزق جسمي، لكنك لن تطال روحي المشرئبة إلى النور الأزلي، تعرف روحي الطريق التي تخلو من لغطكم،و التي توصل إلى الله.
- السبيل الذي يوصلك إلى الله هو دين أهلك، و عشيرتك،و ما رضيه لك أئمة مذهبك. و من خرج عن الإجماع مارق،و جب القصاص منه.
صوبت نحوه نظرات متحدية:
- تعتقدون أنكم تشعلون شموع الإيمان الحق، لكنكم في الحقيقة، تطفئون النور الإلهي بأفواهكم القذرة.(توقفت عن الكلام، أخذت نفسا. بللت حنجرتي اليابسة بجرعة لعاب. واصلت) و في أحسن الأحوال تجعلون الدين الذي أراده الله للناس جميعا، دينا لجماعة أو طائفة. ما أرحب ما أنزل الحق من السماء، و ما أضيق ما تدعون إليه!... عندما تحاصرك النعرات...و يجور عليك الأدعياء توجه إلى البحث الحثيث عن الطريق الآخر الذي يوصلك إلى الله.
أمسكني محقق من شعر رأسي. جذبه بقوة حتى دمعت عيناي. قرب الرجل الملتحي فمه من أذني، وصاح مستشيطا:
- هل أفهم من كلامك أنك مدع آثم. يزعم أن الله أرسله بعد آخر الأنبياء لينشر دينا جديدا؟
لم يمنعني الألم من السخرية من أفكاره الحمقاء، وعقله الصغير. هو أبعد من أن يفهم أن محمدا(صلى الله عليه و سلم) عندما مات لم يعين كاهنا، و لا أميرا، و لا مرشدا، و لا إماما ليحتكر الكلام باسم المسلمين. روحي، و قلبي، و عقلي... كل جوارحي تهفو إلى النبع الأول، إلى رب السنة،و الشيعة...رب العالمين.
حدجني بنظرات حادة، و قال حانقا:
- أراك واثقا من نفسك. و تظهر على وجهك راحة كبيرة.
ابتسمت ابتسامة مشرقة، و رددت على كلامه باطمئنان تام:
- أجل، تغمرني سعادة كبيرة، لا يمكنك أن تشعر بها أبدا، لأنني أعلم أن الحساب يوم القيامة بيد الله وحده، و رحمة الخالق واسعة، إذا أسأت احتسبها سيئة واحدة،و إذا أحسنت ضاعف الحسنة بسخاء كبير.
ضاق صدره، فأشار إلى محقق برأسه موحيا له أن الجدال لم يعد نافعا. اقشعر بدني. لكني قاومت الخوف. تذكرت هذا الكلام(الحاقدون الكبار الذين عرفهم التاريخ كانوا دائما قساوسة) عفوا نيتشيه، دعني أضيف إليهم فقهاء المذاهب. تأملت الرجل الملتحي بسحنته الجافة، و ملامحه العدوانية. ندت من فمي كلمات لم يسمعها أحد:
- تُرمى الجمرات لرجم الشيطان، و يجب أن ترمى اليوم لرجم فقهاء الكراهية، لأنهم أيقظوا الفتنن من سباتها، و أضلوا الناس، و صرفوا المسلمين عن أعدائهم الحقيقيين.
أحسست بيد عاتية تجرني من شعر رأسي. لن أصرخ. لن أتوسل أحدا. تركتهم يبطشون بجسدي، و أنا أردد بصوت عال:
ارحمنا يا ربي..
اجعل رحمتك التي وسعت كل شيء،
و رحمة رسولك الكريم في قلوب البشر.
عدت إلى زنزانتي متعبا،جسمي مثخن بالجراح النفسية،و الجسدية.روحي كسمكة ترفض النوم.ألقيت بجسدي المنهك على الأرض.صرت أئن أنينا يذيب الصخر.أغمضت عيني.رأيتني أسير في طريق مستقيم،يخلو من العوائق، و اللغط، يرتفع ليقودني إلى السماء حيث يشع نور لا مثيل له. أحسست بصفاء نفسي، و شعرت بقلبي يتوهج كمشكاة توقد من شعلة الإيمان السرمدية. ( و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل) أسرعت الخطى...اندلق على جسمي سطل ماء شديد البرودة.وقفت مذعورا،و أسناني تصطك.شعرت بصدري يضيق.ترنحت ثم ترنحت كديك مذبوح. سقطت على الأرض.توقف نبض فؤادي،و سبابتي تشير إلى السماء.
في غرفة الاستنطاق ظهرت على شاشة حاسوبي رسالة إلكترونية:
لاتقنط من الانتظار
غيبتي لم تعد طويلة
نلتقي يوم الأحد في محطة القطار.
صديقك إمامي.