في حوار لأحد قيادات الجماعة الإسلامية وحزبها البناء والتنمية الأسبوع الماضي مع جريدة "المال" ذكرَ أنهم يعارضون بشدة المراجعات التي قامَ بها الدكتور ناجح إبراهيم!

وبالتزامن مع هذا الحوار كتبَ قيادي آخر بالجماعة على صفحته على الفيسبوك يقول نصاً :

"كلما صدعنا بالحق كاملاً .. وكلما وقفنا في وجه الباطل .. وكلما أنكرنا مواقف المتخاذلين وفضحنا نفاقهم أو تأويلاتهم الباطلة رفع البعض في وجوهنا قضية "مبادرة وقف العنف " وآثار آخرون قضية " المراجعات " التي قامت بها الجماعة .

لقد ظن هؤلاء جميعاً أن المبادرة والمراجعات معناها "ألا تتحدث بالكلية.. أو أن تتخلى عن الحق أو لا تنحاز لنصرته.. أو أن تأخذ بالرخص ما حييت.. أو أن تنهزم أمام الواقع .. أو ألا تقف في وجه الظالمين الغادرين أو ألا تنكر على من حاد وسلك سبيل المجرمين

للأسف نحن أمام قراءات خاطئة لقضية " المراجعات " تسبب فيها تصريحات بعض القيادات السابقة للجماعة التي كان لها فهم خاص لقضية المراجعات رفضتها جميع قيادات الجماعة وكوادرها .. وتسبب فيها أيضاً أن كتب المراجعات نفسها لم تأخذ حظها من النشر والبيان حتى يقف الجميع على حقيقتها .

كما أن البعض أراد عن عمد وإدراك استخدامها وتوظيفها لإخماد صوتنا.. والتأثير على قراراتنا.. ومحاولة لإقصائنا عن الساحة .

المراجعات يا سادة تعنى باختصار: وقف العمل المسلح واستخدام العنف مع النظام أو مؤسسات الدولة كخيار أو مبدأ استراتيجي وذلك جلباً للمصلحة ودرءاً للمفسدة وهذا لا يعنى أن " كل " ما قامت به الجماعة باطلاً أو مخالفاً للشريعة .. كما لا يعنى ألا تكون الجماعة معارضة بقوة للنظام العلماني معارضة سلمية .

كما لا يعنى أن تكون الجماعة بوقاً للمؤسسات الأمنية أو العسكرية .. المبادرة تعنى فقط ترك العمل المسلح مع التمسك الكامل بالحق والمبادئ والقيم التي عشنا ومات شهداؤنا من أجله " .

انتهى كلام القيادي بالجماعة الإسلامية وحزب البناء والتنمية على صفحته على الفيسبوك .. وبالاطلاع على التعليقات نجد أنه قد لاقى استحساناً وقبولاً من كثيرين .

وهو كلام يؤكد أن قضية المراجعات لا تزال ملتبسة وحولها خلاف اضطرَ الرجل لإزالة اللبس حوله وحسم القضية لصالح وجهة النظر التي يتبناها هو ومن وافقه عليه .

بمعنى أن هذا هو مفهوم المراجعة كما يراه وما سواه باطل ومردود وتدليس وتخذيل ومحاولة لكتم الأصوات والتأثير في القرارات والإقصاء عن الساحة .. إلى آخر ما ذكره .

والسؤال هنا:

لماذا لا تكون المراجعات – كما يتبناها البعض الآخر الذي نوه إليه - زحزحة إلى المنطقة الوسط.. فلا كتم للأصوات من جهة ولا جعجعة فارغة وزعيق بخطاب غير مسئول وغير منضبط يضر أكثر مما يفيد من جهة أخرى ؟

ولكي لا يكون هناك إقصاء تماماً عن الساحة بتكرار نفس الأخطاء من جهة.. مع حضور متوازن مستوعب للتجارب السابقة عنوانه الأداء والخطاب الدعوى والسياسي الراقي المتطور المنضبط بتعاليم الشرع وبما تعلمناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام .. وبما يتلاءم مع كل واقع - وليس الواقع الذي نحياه فحسب - .. أما المضمون فسلوك المشاركة والاندماج والتدرج لا السيطرة والتعجل ؟

وإذا كانت الجماعة وغيرها من الفصائل الإسلامية قد حظيت بأحزاب تعبر عنها وتتيح لها العمل والنشاط السياسي والحزبي بعد تاريخ من التخبط والصدام والمحن والسجون.. فلا أقل من السير المتوازن بحذر وتباطؤ مقصود ورضا بالقليل المفيد من المكاسب احتراماً للمرحلية وتقديراً لخطورة التحديات وشراسة الخصوم الذين يضعون التجربة ككل تحت المجهر في أول اختبار حقيقي لها .

وفى مقال لقيادي ثالث بالجماعة الإسلامية وحزب البناء والتنمية يستخف بإمكانية حظر حزب الجماعة ويقول نصاً:

" وجود الأحزاب ليس غاية في حد ذاته .. ولكن الأهم ما هو الدور الذي ستلعبه هذه الأحزاب في الحياة السياسية .. فإن كان الدور المرسوم للأحزاب في مرحلة ما هو مجرد ديكور لعملية سياسية زائفة.. فلا شك أن الحرص على وجود الحزب على حساب التمسك بالقيم والمبادئ هو أمر لا يصب البتة في مصلحة العاملين به بل على العكس تماماً " .

هذا كلام نبلعه ونستسيغه من زعيم حزب عريق في الحياة السياسية المصرية صاحب تاريخ ممتد لعقود وله بصمات منحوتة وتُدرس في التاريخ المصري ليتحدث بهذه الثقة الكبيرة وبهذا الوعيد الذي من المفترض أن يعمل له الخصوم والمنافسون والدولة ألفَ حساب.

فأما حياة سياسية وممارسات شفافة وأحزاب لها دور مؤثر وحقيقي.. وأما الانسحاب الذي قد يهدد العملية السياسية ويعرقل الاستقرار في البلد !

وما درى الأخ أن انسحاب حزبه وإقصاءه مرغوب ومدبر له ومخطط لإقصائه .. وأن دوره الحقيقي كقيادي مسئول هو الاجتهاد في البقاء الذي يتناسب مع حجم حزبه وإمكانياته وتاريخه السياسي .. مع الاجتهاد في إصلاح الحياة السياسية والواقع المزري المتوارث الذي لن ينصلح في غمضة عين بين عشية وضحاها.. لا أن يتقمص روح الزعيم مصطفى النحاس وهو يهدد ويتوعد الملك فاروق .

حزب الجماعة وجوده وبقاؤه ضروري جداً حتى ولو في واقع سياسي زائف.. إذ كيف الحديث بهذه المثالية والجميع يعلم حجم الفساد والزيف في الواقع المصري .. ولكي تنتظر وأنت خارج الساحة حتى ينظف هذا الواقعُ نفسَه ويتحرر من زيفه وملوثاته وديكوريته فلن تلتحق بالعمل السياسي في المستقبل المنظور .

بقاء الحزب ضروري بل مصيري حتى ولو ظل لفترة مجرد ديكور وقد أنشئ حديثاً.. بالنظر إلى الماضي المعروف فهناك مهام وايجابيات أخرى يقوم بها غير المنافسة السياسية والإصلاح السياسي الذي يأخذ وقتاً طويلاً من العمل والنضال.. فيكفى أنه ينقل الجماعة من العمل التقليدي التنظيمي الملتبس والمُهدد بدون سقف مشروعية يحميه إلى العمل السياسي المعلن المتنوع ويدمج أبناء الجماعة في المجتمع والحياة العامة ويحميهم من الانزلاق مرة أخرى في عمل سرى غير مشروع ويوظف طاقتهم وحماسهم التوظيف السليم ويطور أداءهم وخطابهم السياسي والإعلامي .. الخ .

ما هو السبب وما وجه الوجاهة في تبنى فلسفة إما هذا أو لا شيء.. أو إما أن تصلحوا الوضع السياسي فوراً أو لا نشارك وحلوا أو لا تحلوا أحزابنا فلا يهمنا؟

وإما مرسى وعودته أو لا مصالحة.. وإما حق أو باطل.. وإما علمانية أو إسلامية.. وإما حضور كما نريد وبشروطنا أو لا حضور.. وإما نحن برؤيتنا الخاصة لمواجهة العلمنة والعسكرة وتطبيق الشريعة أو وصم ما دون ذلك من حديث عن تطوير للخطاب ومراجعة للأداء بالنفاق والعمالة والمداهنة ؟؟

لماذا إما هذا أو ذاك ؟

إما نحن أو هم ؟

ألا توجد منطقة وسطى تحمى الحركة الإسلامية كلها وتحمى الأوطان من الانقسام والفرقة وتنصر الدعوة وتضمن حرية الرسالة ، ولا تتسبب كل مرة في الزج بالدعاة والمناضلين وحملة الدين إلى السجون ؟

ألم نسأل أنفسنا ذات مرة.. لماذا ينجح الأقباط في كل مرة والعلمانيون واليساريون والناصريون في الحفاظ على كياناتهم ومنظماتهم وأبنائهم من الحظر والمنع والقيد والمنافي والسجون ؟

كيف يستطيعون ذلك فيما التصقت سمعة الحركة الإسلامية بأنها صديقة السجون والزنازين والمنافي ؟

فإذا اتضحَ أنها خطة مرتبطة بالسياسة والمصالح .. فلماذا لا تتبناها الحركة الإسلامية وتطبقها .. مروراً بالتطوير والدمج والتعايش.. وصولاً إلى النضج والإسهام في الإصلاح والتغيير المأمول وفق سنن الكون والأمم في التطور والتغير والتداول ؟

لم يُراجع الأقباط خطابهم وأخطاءَهم ولا العلمانيون ولا اليساريون ولا الناصريون نظرياً.. ولم نقرأ كتباً في مراجعات الأقباط أو مراجعات اليسار .. الخ.

لكننا لا نرصد هزائم موجعة لهم على الساحة بقدر الهزائم التي تعرض لها الإسلاميون ، ولا حتى فشلاً في الحفاظ على البقاء في المشهد حتى ولو لم يحققوا آمال الشعوب.. وحتى لو ثبت فساد نظرياتهم وبرامجهم السياسية إذ يكفى أنهم ظلوا في الحكم وصدارة المشهد السياسي طوال هذه السنوات وهم يمثلون الأقلية .

هذا البقاء في حد ذاته نجاح حتى لو لم يكتسبوا جماهيرية.. وقد لمسنا مدى النفوذ الذي يمتلكونه في أروقة الإعلام وفى عمق مؤسسات الدولة عندما اطلعنا من قرب على الأوضاع .. وكان اطلاعنا من خارج الحدود دون التوغل كثيراً في دهاليز سبقت إلى استكشافها والسيطرة عليها تلك الكيانات ببرجماتية وروح مناورة ورغبة في مشاركات وتحالفات أوصلتهم إلى هذا المستوى من التمكن والحرفية والنفوذ .

فهل هذه عبقرية زائدة منهم ودينماكية يفتقدها الآخرون ؟

أم أن الآخرين عكفوا وجمدوا على ذات النظرية فلا قبول لسواها ولا مرونة بشأنها.. فإما نحن أو هم وإما صدام أو سيطرة ، وإما واقع سياسي نظيف أو لا نعمل ، مع اعتبار الصوت الناصح الغيور المشفق إما جبان أو منافق أو مداهن ؟

المداهنة والتراجع ترك لصحيح الدين من أجل الدنيا.. والمراجعة إقبال على صحيح الدين وترك ما عداه .. وتصحيح سريع ودءوب لما شاب المسيرة من أخطاء إعزازا ً للدين ونصرةً للأوطان ، لئلا تعصف أخطاءُ البعض بقضاياهما الأساسية .

الأعداء يحاولون إخراج الإسلام من المواجهة وصولاً للسيطرة الكاملة على الأمة بتعطيل الشريعة وتغييب الأخلاق والقيم وإضعاف دور الأزهر وتهميش الحركة الإسلامية .. وأسهمت الحكومات المتعاقبة ومؤسسات الدولة بالتحالف مع التيار العلماني في تحقيق جزء كبير من ذلك - والسلطة الحالية مصرة على ارتكاب نفس الخطيئة - والحركة الإسلامية غير مُعفاة من مسئولية إضعافها.. وكان هذا الإقصاء المتعمد للحركة الإسلامية خسارة كبيرة للأمة وللأوطان .

المراجعة لا تقتصر على إلقاء السلاح وحل الجهاز الخاص أو الجناح العسكري – كما قال الأخ القيادي على صفحته - بل هي بلورة شاملة لرؤية تخدم الإسلام والوطن والحركة وتعالج العوامل والدوافع والرؤى المغلوطة التي أدت للصدام مع الدولة في السابق.. سواء ما يتعلق بالتصورات الفقهية أو الفكرية .

مراجعة للمسائل الفقهية الدقيقة وكيفية إنزال الحكم الشرعي على الواقع وضبط العلاقة مع الحكام ومواءمة الواقع والتحديات وتغير الفتاوى باختلاف الزمان والمكان وضوابط الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .. الخ .

وتنقية الفكر من آفات التكفير والغلو والتقصير والإفراط والتفريط تحقيقاً للمنهج الوسط المتزن في فهم الإسلام .

وتنقية الخطاب مما شابه بالمقارنة مع الخطاب الإسلامي الراشد مع الخصوم والمخالفين .. تحقيقاً لخطاب إسلامي راق مع الهيئات والعلماء والمؤسسات والرموز والشخصيات السياسية والفكرية.. مهما كانت درجة خصومتهم وعداوتهم فلا تطاول ولا تجاوز ولا تخوين.. بل وحتى الخطاب الموجه للدول المعادية والغرب في حاجة لمراجعة وتصحيح .

الحركة الإسلامية تحصر اختياراتها بين اثنين لا ثالث لهما وتعمد لطعن من لا يرى ذلك بالنفاق والتخاذل وانهزام أمام الواقع – كما قال الأخ على صفحته –

فإما المواجهة مع الدولة حتى الموت أو إقامة المشروع الإسلامي والحكومة الإسلامية الخالصة ، دون النظر إلى واقع الحركة من قوة وضعف ، وإلى التحديات الكبرى التي تواجهها دولنا .. والمتغيرات دولياً وإقليميا .

يراها البعض قضية وجود لا تنتهي إلا بانتصار طرف على الآخر.. ويبحث البعض الآخر في صيغة لا تهمل الواجب ولا الواقع لتأسيس علاقة تكامل وتعايش وتعاون ومشاركة بين الحركة والدولة .

الجماعات ليست وحدها التي تحمل هم الإسلام.. وهناك أناس ومؤسسات لا تحمل العناوين الإسلامية.. لكنها تحمل هم هذا الدين وتسعى باجتهادها لنصرته وعزته وتمكينه .

سلطان العلماء العز بن عبد السلام حشدَ الأمة خلف سلطان مصر والشام سيف الدين قطز - رغم ما شابَ المماليك من مخالفات كثيرة - في مواجهة تحدى التتار .. وكذلك فعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مع المماليك.. وكان هذا اختيار فضيلة الشيخ الشعراوى مع الرئيس السادات.. وللشيخ القرضاوى إفاضات في تأصيل هذه الرؤية .

مع تطورات الأحداث أصبحت هناك حالة من فقدان الثقة بين الإسلاميين والدولة بعد أن قطعا شوطاً في تعزيز هذه الثقة قبلَ الثورة وكانت انطلاقة مبشرة لتحالف راشد بين القرآن والسلطان.. على أساس عدم منازعة أهل الحكم سلطتهم مقابل فتح أبواب الدعوة والإصلاح والتربية في وجه أبناء الجماعة الإسلامية.. لتلتزم الحركة بمنع كافة أشكال الصدام مع الدولة وعدم المساس بهيبتها وسيادتها .. مع التزام الإخوان بالإصلاح الدستوري والسياسي المتدرج من داخل الدولة .

الأحداث غيرتْ الكثير من القناعات وأطاحتْ بالكثير من المكاسب في مسار المغالبة استقواءً بالانفجار الشعبي .. ورغم الانفراجات والامتيازات غير المسبوقة للإسلاميين في دهاليز صناعة القرار والتشريع والإعلام.. إلا أن البعض عصف بالمراجعة ومن ينادى بها ما دامت الفرصة سانحة لتحقيق الهدف المستحيل وإزاحة الدولة لبسط كامل السيطرة لتكون الحركة الإسلامية هي البديل بلا منازع .

هذا ليس صراع وجود ولن ينتصر هذا على ذاك انتصاراً ساحقاً .. والدولة لن تستقر بتهميش وإقصاء الإسلاميين.. والخاسر في هذا الصراع هي مصر وتمزيقها لا يصب إلا في مصلحة أعدائها الحقيقيين المتربصين بها الذين يتحينون فرصة الانهيار الداخلي للانقضاض على الفريسة التي لم تعد قادرة على النهوض للدفاع عن نفسها.

الخميس الموافق:

10محرم 1435هـ

14-11-2013م