الظـــــل
كانَ واقفاً عندَ الظهيرةِ وحرُّ الشمس ِ يلفحُ وجههُ المتعبَ من عناءٍ لم يعرفْ هو سببه .
كانتْ تتضاربُ في رأسه الأفكارُ ، وتدورُ في محورٍ يتسعُ ويضيقُ على قدرِ النوبةِ التي تشكلها هذه الأفكارُ .
كلما حاولَ التركيزَ على فكرة ٍ ما انفلتَ رباطُ حسّهِ وفقدَ السيطرةَ عليها ؛ الأمرُ الذي جعلهُ يثورُ ويتخبطُ ببعضهِ .
كانت ْ تبدو عليه أماراتُ الخيبةِ ، ترافقها علاماتُ التوتر ِ التي تظهر جليّاً في تقاطيعِ وجههِ المتعبِ .
لم يكنْ يعرفُ سببَ هذه ِ الحيرةِ التي تسيطرُ على نفسه ، وهذا الوجومِ الذي يخيّم ُ عليه .
كانَ كلما التفتَ حولَ نفسهِ تراءتْ لهُ خيالاتٌ يتداعى فيها طيفٌ مجهولُ الهويةِ يظهرُ ويختفي بسرعةٍ قبلَ أن يستطيعَ تحديدَ ملامحهِ أو الوقوفَ على شخصيتهِ .
تلكَ الخيالاتُ كانتْ تمرُّ أمامَ عينيهِ وكأنها فلاشاتٌ ضوئيةٌ تشتعلُ وتنطفئ ، دونَ أن يعرفَ المسببَ لها .
أرادَ أن ينهي هذهِ الانفعالات في داخله ، والتي كانتْ تسببُ له إزعاجاً كبيراً ، بالخروجِ من هذا الجوِّ الذي سيطرَ عليه ، وجعلهُ يرى أشياءَ غيَر معقولةٍ .
حاولَ أن يتقدمَ خطوةً للأمامِ باتجاه ِ غرفتهِ ، لكنَّ شيئاً ما أوقفَ حركتهُ ، وأبطأَ خطوتهُ ، إنّه عاجزٌ عن التقدمِ للأمامِ , أو التراجع ِ إلى الخلفِ .
تبسمرَ في مكانهِ وكأنَّ على رأسهِ الطيرَ .
بدأَ يحدثُ نفسهُ : " يا إلهي ما الذي يجري ؟ أأنا في حلم ؟ إنني عاجزٌ عن الحركة " .
ـ لا ، لستَ عاجزاً عن الحركةِ ، لكنك تتوهمُ ذلك َ . " أجابهُ صوتٌ لم يعرفْ مصدرهُ " .
ـ مَنْ أنتَ ؟ " سألَ بخوفٍ شديدٍ " .
ـ أنا أنتَ ، ألا تراني ؟
أخذَ يتلفتُ يميناً وشمالاً دونَ أن يرى أحداً .
ـ أين أنتَ ؟ "سألَ بدهشة ٍ بدتْ على وجههِ"
ـ أنا هنا أمامكَ .
ـ أيـ......ـن ؟
ـ تحتكَ ، تحتَ أقدامكِ ، انظرْ جيداً .
نظر َ تحتَ أقدامهِ لكنهُ لم يرَ شيئاً ، فأخذتْ ترتعدُ فرائصهُ ، وبدأتْ تختلجُ مفاصلهُ ، وأماراتُ الخوفِ ترتسم ُ على وجههِ ، فما هذا الشيءُ الذي يُحدِّثهُ دونَ أن يراهُ .
ـ من أنتَ يا هذا ؟ إنسٌ أم جانٌ ؟
ـ لستُ إنساً ولا جاناً ، أنا أنتَ ، ألم تسمعني ؟ أنـ.....ـت .
ـ كيفَ تكونُ أنا ، وهل لي غيري ؟ أنا لا أعرفُ لنفسي أحداً سواي .
ـ بلى ، أنا .
ـ أتريدُ أن تصيبني بجنون ؟ عَرِّفْ عن نفسكَ وإلا فاتركني وارحلْ بعيداً .
ـ لا أستطيعُ ذلكَ ، فقدري أن أرافقكَ طيلةَ حياتك َ ، ولا أترككَ لحظةً واحدةً .
ـ ماذا ؟ ترافقني ؟ أأنت مجنونٌ ؟
ـ هذا يتوقفُ عليكَ ، فإن كنتَ مجنوناً أكونُ مجنوناً مثلكَ ، وإن كنتَ عاقلاً أكونُ عاقلاً مثلكَ .
ـ يا إلهي ، هل أصابني مسٌّ شيطاني حتى غدوتُ أتوهمُ أشياءَ غيرَ موجودةٍ ؟
ـ أنتَ دائماً تلقي بضعفكَ إلى الشيطانِ لتتهربَ من المسؤوليةِ . حاولْ مرة ً أن تواجهَ الأشياء َ ، أن تسجلَ موقفاً في حياتكَ ، أن تقفَ على أرضِ الواقعِ بعيداً عن التخيلات التي تتقوقعُ داخلها لتهربَ من نفسكَ الحائرة ِ .
ـ أهربُ ..! كيفَ ذلك ؟
ـ نعمْ تهربُ ، فأنتَ لا تمتلكُ القوةَ لمواجهةِ الحياةِ ، أو عملِ شيءٍ يكونُ له صدىً في مجتمعكَ ، كلما فكرتَ في شيءٍ تراجعتَ عنهُ مخافةَ أن يسببَ لـكَ مشكـلات ، أو يدخـلكَ في أمـورٍ تتصـورُ أنَّكَ في غنى ً عنها ، فبقيتَ مجهولاً لا يعرفُ لكَ اسمٌ ولا هويةٌ ، منفياً في حياتكَ وفي مماتكَ ، تمرُّ عليكَ الأيامُ متشابهاتٍ دونَ أن تحرزَ تقدماً ، أو تنجزَ عملاً يسجلُ لكَ .
ـ كفى .. كفى ، لا تكملْ فقدْ أصبتَ مني مقتلاً ..
ـ وهذا الأمرُ هو الذي أوصلكَ إلى هذهِ الحالة.
ـ أيُّ أمرٍ هذا ؟
ـ خوفكَ من مواجهةِ نفسكِ قبل َ مواجهةِ الغيرِ ، فلو استطعتَ التغلبَ على هذا الخوفِ الذي يعتري نفسك لاستطعتَ مواجهةَ الآخرين دونَ أن تنتظرَ منهم بادرة َ أملٍ في مساعدة ٍ تنتشلكَ مما أنتَ فيه .
ـ خوفٌ ..! أأنا أخافُ من مواجهة ِ نفسي ؟
ـ نعمْ ، تخافُ ، تخافُ حتى من خيالكَ ، فلو تراءتْ لكَ نفسكَ المتعبةُ الخائفةُ المجهدةُ لمُتَّ فزعاً، ولبقيتَ فاغراً فاكَ إلى أمدٍ .
ـ ولكنْ ما أدراكَ بكل هذا الذي تتفوهُ به ؟
ـ هيه .. يا صاحبي أنتَ نتـاجُ جيلٍ كاملٍ ، وهذا الذي تحملهُ في نفسكَ محصلةٌ وراثية ٌ أورثكَ إيّاها والدكَ عن جدكَ عن أبيهِ ، فالحمضُ النووي الذي تحملهُ أصابهُ فيروسُ الخوفِ والجمودِ ؛ والذي نشأَ معكَ منذُ الطفولةِ ، فعشَّشَ في نفسك ، وفرّخَ بيوضهُ التي أخذتْ تسيطرُ عليك ، وتشعركَ بعدمِ القدرة ِ على تخطي أي أمرٍ يعترضكَ ، وهي في الحقيقةِ ليستْ سوى أوهام ٍ كبرتْ معكَ حيثُ وجدت البيئةَ الملائمةَ في نفسك فأخذتْ بالتوسع ِ والسيطرة ِ على عقلك َ الذي وقفَ أمامها عاجزاً عن الإتيانِ بأي حركةٍ .
ـ ولكنْ من الذي قامَ بزرع ِ هذه الأفكارِ في رأسي ورأسِ أبي وأبيه وجدّه ؟ وكيفَ استطاعتْ أن تحققَ هذا النجاحَ الذي وصلتْ إليه بهذهِ الفترةِ القصيرة ِ؟
ـ أمّا من زرعَ هذهِ الأفكارَ ، فالأمرُ يطولُ شرحهُ ، وعليكَ أن تفكرَ بهِ وحدكَ كي تستطيعَ تحديدَ ماهيةَ هذا الشيءِ الذي سيطر َ عليكَ ، وأمّا كيفَ حققَ نجاحهُ ، فقد قلتُ لك إنّه وجدَ البيئةَ المناسبةَ في نفسكَ ونفسِ أبيك َ وجدّك َ؛ هذهِ البيئة التي يملؤهـا الفراغُ ، والتي لا تمتلكُ أيَّ مقومـات ٍ تجعلها قادرةً على التصدي لمثل هذا الفكرِ .
ـ أهٍ ، يا لكَ من خبيثٍ ، من أينَ تأتي بهذه التحليلات ؟ وكيفَ استطعتَ أن ترصدَ هذه التحولات؟
ضحكَ ساخراً ثمَّ تلاشى في سكون ٍ دونَ أن يتفوهَ بأيِّ كلمةٍ ، وبقي صاحبنا على حاله لا يدركُ ما جرى معهُ .
4/2005