قرار الليل ...كل صخب النهار ، بحت أصواته ، و راحت الشمس تضع أوزارها على أعتاب الأصيل. انفض عني أبنائي إلى ذويهم ، لأجد نفسي من جديد و حيدا أواجه زحف الليل المثلج في هذا المكان القصي المقيم بين السحب ، و الذي أغفلته تفاصيل الخرائط الطرقية المعبدة وغير المعبدة، و أفلت من وشوشة أجهزة الإرسال. لم تستطع له خطوات التنمية صعودا، ولم تلتف حوله أسلاك الكهرباء و لا الهاتف.
هنا حيث توقف الزمن عند الشمعة و قنديل " الغاز"، تبدو أنوار السماء أوضح و أكثر قربا من أنوار الحضارة. الناس هنا لا يتهيبون صعود الجبال، شبوا عليه و تعلموه قبل الكلام لكنهم ما زالوا يعيشون بين الحفر.
فارغة غرفتي إلا مني، شمعة يذيبها الأرق و قطعة ليل تلفنا. أدمنت إشعال الشموع وما زلت ألعن الظلام.
فارغة غرفتي من الدفء و عارية جدرانها إلا من أسماء الذين مروا من هنا و أيامهم محفورة أخاديد بعمق المعاناة. آويت إلى ركن لا يعصمني من البرد و لا من الوحدة و تكورت وسط بطانية لا تقيني لسعات البرودة المتسللة عبر شقوق البناء المفككك.
صوت الريح في الخارج عواء ذئب ، تشن هجوما مسعورا على كل ما يعترضها،يخيل إلي أنها تنتقم لهزائمها المتوالية أمام الجبل. معركة صمود ضارية تخوضها الأشجار و الجدران، لا تتضح خسائرها إلا مع شروق الشمس.
" ماذا أفعل هنا؟" ذات السؤال الموشوم على الجدار المواجه لي يصرخ في وجهي ككل ليلة ولم أستطع بعد إخراسه. رغم مئات الأجوبة التي قدمتها.
لم أعرف من من الذين سبقوني إلى هذه الغرفة نقش هذا الوجع هنا، لكني أحسست منذ أسبوعي الأول أنه وجه لي.
" ما الحياة إلا اختيارات" هكذا يقول الكتاب الذي بين يدي . أتراني أسأت الاختيار ؟ ... أكيد
لم أولد على قمة جبل. لم أولد لأعيش فيه، و لست أدري في أي منعرج سقطت مني أحلامي دفعة واحدة، في أي عبور أضعت بوصلتي لأنتهي في هذا السجن الطبيعي. حيث ما تولي و جهك فتم شيب الجبل يسد الأفق. لست من هواة الصمت و لا أحب الهواء النقي ، لم تتعود أذناي على الفراغ ، و كريات دمي امتزجت بعوادم السيارات و رائحة الزحام . لست شاعرا ولا رساما و لا متصوفا ، فلينعموا بالطبيعة ، و السكون و الجمال و وقار الجبل ، ليتربعوا على قمته و ليعيدوني إلى فوضاي و مجراي.
حلمت بكل شيء ... إلا أن أكون مدرسا في دوار منعزل على قمة جبل. أيكون هذا قدري المحتوم ؟ هل القدر هو ما يتبقى لنا بعد أن تتساقط أحلامنا تباعا؟؟
معدلاتي العالية كانت تفتح أمامي باب الاختيارات على مصراعيه ، أي ريح هذه التي أوصدته و قذفت بي إلى هنا؟؟
الصفحة قبل الأخيرة من الكتاب تقول لي أن " الواقع هو ما نموت عليه لا ما نحياه " و أنا لم أمت بعد.
" ما يزال الإنسان حيا ما دام يحلم"
أنا أيضا ما زلت أحلم !
" الحياة سلسلة من البدايات و نهاية واحدة"
لكن هل بإمكاني حقا البداية من جديد ؟؟
"أغلب الإنجازات العظيمة بنيت على أنقاض الفشل "
الصفحة الأخيرة تصرخ في وجهي بخط عريض : " قرر ، ثم انطلق ! لا تتردد لا تلتفت إلى الوراء. لا شيء يجبرك على الموت قبل أجلك"
لا شيء يجبرني على الموت، نعم.
"و حدهم الأموات مجبرون على قبورهم"
و أنا لست مجبرا على البقاء هنا، الحياة اختيارات و مسالك، لم أمت بعد، مازلت أنعم بحق تغيير المسار، بدل قضاء العمر محاولا إيجاد فجوة في سؤال .... لن أبيت غدا هنا.
أغلقت الكتاب ، حدقت في السؤال مليا ، رأيته يتضاءل ، يفقد سطوته ، أحسست أنه لم يعد يعنيني ... توسدت قراري ، تلحفت بعزيمتي و نمت.
شمس الصباح تغازل الفضاء بدفء محتشم، و ضباب ينجلي شيئا فشيئا مسفرا عن بساط أبيض. مرتديا وزرتي البيضاء ، كتبت تاريخ اليوم على السبورة و وقفت عند باب الفصل أنتظر و صول أبنائي.