السمادير التي تتغشاني عندما أقرأ رواية لصدام حسين
ومهما يكن من أمر، ومع كل ما قيل وما يقال، فإنه لم يدّع قط لنفسه أنه كتب هذه الرواية، وإن كان يمكن أن يكون كتب النسخة الأصلية منها، وأجريت عليها تحريرات جمالية عدّة، كما هو الشأن مع سائر المسؤولين الكبار الذين لا يكون وقتهم ولا فراغهم كافياً لتطعيم العمل الروائي بالشاعرية المبتغاة، مع أن لديهم ميولاً أدبيّة ورغبة جارفة في معاقرة الأدب في بعض أحيانهم، حين لا يعود ثمة لدى هذا الكائن السياسي الذي يتمثل في شخصية الزعيم الملهم أو العدو المتشيطن خلوة حقيقية يستطيع أن يكون فيها صادقاً إلا خلوته بخياله الوحيد.
أتخيل أنني الآن في ذلك الوضع القمقمي المزعوم للشاعر العراقي (الذي ظل ينكر بشدة علاقته بهذه الرواية حتى بعد سقوط بغداد)، وأنظر إلى نفسي وكأنني أنا هذا الشاعر، أخدم هذا الزعيم في وظيفة "مساعد أو محرر روائي"، أشارك في صناعة الإبداع هذا الرجل الجبار الذي يعد أعلى ذات من الذوات التي لقيتها على هذه الأرض.
وكأنني أُراني وأنا أحاول أن أعير الزعيم سطوتي الأدبية، وأنا –بالطبع- لا قدرة لي عليه؛ لأن له منعة، وجاهاً، وأناساً يأتمرون بأمره، وهو –من جانبه- حذرٌ، آمن الجانب، محتاط لكلّ تسريب لن يؤول من جانبي إلا إلى الإطاحة برأسي عن جسدي، وأنا أستحضر كل هذا عائداً مع سائقي الخاص إلى منزلي، متذكراً أن له في جناحه الذي يسكنه غرفة مغلقة تملؤها الأسلحة، وأن مقعد سيارته الخاصة الخلفي –على رغم كل حراساته واحتياطاته- لا يخلو من جرابٍ بنّي أو رصاصي أو أصفر له سحّابٌ معدنيّ قويّ ويحتاج أحيانا إلى أصابع قوية لتسحبه، ومقبض جلدي جيّد كمقابض الحقائب، وبداخله رشّاشٌ روسيّ معبّأ؛ ذلك أنّه مولع بالصيد، وفطنٌ لحماية نفسه، ربّما لأنّ له أعداءً كثراً، ربّما لأننا أنا وإياه ينبغي لنا دائماً أن نكون مستعدين لصاروخ يقتحم علينا قعدتنا الإبداعية من النافذة، أو لأن ذلك من باب المظاهر الفروسية التي يحبها ليس غير.
يا ترى، هل سأنشغل بهذا الطور النفسي الذي سأعيشه لو كنت في هذه الحال، أم أنني سأنخرط في هلوسات من نوع محادثة نفسي بأنّه يدخل من باب ويخرج من باب آخر، شأنه في ذلك شأنُ كلّ من له أصدقاء لا يستعد لاستقبالهم في كل حين، أو مخبرون يتلصّصون على حركاته وسكناته، أو نساءٌ ينتظرنه بالقرب من الباب حتى يخرج، فينهلنَ عليه برجاءاتهن المستعطفة. ولأنه –كما ستمليه عليّ السمادير- لا يحبّ الظهور كل حين بمظهر الجافي، أو لأن الكرم لا ينقصه دائماً فإنه لا يستطيع التخلص من ذلك إلا باللجوء إلى الدخول من باب والخروج من باب، وبتمويه أوقات حضوره وغيبته، حتى لا يتوقع أحدٌ متى يحضر أو يغيب، وربّما لأنّ له أعداءً يختبئون في قمصان أصدقائه وذويه كما قلت.
وفيما لو استطعت النجاة من أن أصاب بالجنون لهذه التهيؤات التي ستستبد بسكوني وتحوله إلى جحيم من الفوران المرتعب، وفيما لو أنني تقبّلت النهاية المتوقعة، وكانت لإطاحة برأسي عن جسدي فكرة تصالحت معها منذ حين، وحاولت أن أتقبل تكويني الجديد، فإنني قد أستطيع أن أقول: إنني لا أنكر أن مطيح رأسي المحتمل ذكيّ، بل هو ذكيّ ومتأمّل وحريصٌ أيضًا، يدرك معنى مركزِه، ويتمتع بالوجاهة المطلوبة وسلوكيات اللباقة التي يتقنها الخواصّ، ولا يحارب الله مع كلّ وجه؛ فأحيانا يصلّي، ويخرج ليتصدّق بتوقيعات على شتى عباد الله من شعبه المرهق بسنيّ الحصار العجاف. لعلّي أنبّهكم إلى أن من دهائه أنّه يتمتع بالقدرة على تخطيط طويل المدى وبالصبر على تنفيذه، فهو يستطيع اصطياد الغزال بحمار، ويعلم أنّ من يسأل لا يضيع، ويتظاهر بأنه ينسى وهو لا ينسى، يميّزه الذكاء الاجتماعيّ، فلا يستطيع من يجالسه أن يتغلّب على دماثته، أو أن يتهرب من الإجابة على أسئلته، كما أنّ عينيْه النافذتين ووجهه الصارم يحتلان مساحة واسعة من محيط رؤية جليسه فتسيطر عليه؛ ولذلك يحقّ له الإيمان بأنّ ذكاءه الحادّ سيجعل كلّ طرائده في متناول يده، إن عاجلاً أو آجلاً، مثلما أنه قد يكون طريدة لمن يسميه هو وخصومه السابقون "الشيطان الأكبر"، وتلك ثقة ليست غريبة على مثله، وحسبه ثقة في كفاءة منظره المطلقة أنّ وسامته الحازمة وحسن ديباجته تتراجع بعمره الحقيقي خمس عشرة سنة إلى الوراء.
إنني أنظر الآن إلى بيته الافتراضي الواسع يشرف على كل النواصي، تحفّ به أشجار من شتى الأنواع، زينةً لرصيفه، إذْ شُقّتْ لها في الحائط أقواس نصر تحتويها، يمرّ بها المنسّق فيشذبها من حين لآخر، وهي منظّمة طبقا لهذا الترتيب: نخلة زينةٍ مجزوزةٌ زوائدُ ساقها، ثم شجرة أمريكيّة، ثم شجرة سدر، وهكذا دواليك. وأمام الواجهة الغربية، تقف شجرة سدر مائلة مشقوقة في منتصف جذعها، لا ندري من أين قدّر لها المجيء، تكاد أن تسقط، لكنّها أرحبّ ظلاّ من نظيراتها، وجذعها منقّش بقائمة من حروف T وقد خطّت بمفتاح أو مفك على ما يبدو، ولكن سعة ظلها تجعل الآتين يخاطرون بإيقاف سياراتهم تحتَها، وأمّا سيّارات البيت فلها موقف داخلي...
ما الذي أود الوصول إليه من هذه السمادير؟ إنني أريد أن أصل إلى أنه: انطلاقاً من هذه الرؤى التي ستنتاب أيّ أديب صغير يحاول أن يساعد زعيماً لجبروته كل هذا الحضور، فإنني أستبعد أن يكون هذا الأديب الشاعر الذي ألمحت إليه في بداية هذه الكتابة أو غيره كتب للرئيس هذه الرواية، ولا أي رواية من الروايات، فإن مشاركة زعيم مطْلق في إبداعه لا يقل خطراً عن مشاركته "دش الاستحمام"، وإن كان ذلك ممكناً في الواقع...
لكن ماذا عليّ ما دمت قد قبلت أن أكون روائياً يشارك الزعيم دش استحمامه لو تخيّلت أن رسّاماً آخر -كما قد أشيع أيضاً- كان يساعد الرئيس العراقي الراحل في الرسم؟
لنحدث أنفسنا بأنني أنا الرسام، وأننا (أنا والهامة الأسطورية) هناك في المجلس، تحت مصابيح صفراء ساطعة تحتوي مئات من الفصوص الصغيرة العاكسة تزيد من قوّة الضوء ومن حرارة الموضع، جلسنا هناك مراراً، وهناك تبادلنا بعض معارفِنا، فأفادني ببعض العبارات اللطيفة التي تخفف من تهيباتي المفزوعة من فرط حضوره، من تلك العبارات اللازمة لتخفيف سطوة ظهوره القاهر، لنتخيل أنه يحدثني ويمازحني ويذكرني بحكمة شعبية رومانية أو بلجيكية كعبارةِ: "لا تذمّي ذوق زوجكِ فهو اختاركِ أوّلاً"، ولنتصور أنه من أجل هذا اللين الذي يريد استصناعه لكيلا أموت جزعاً، لنتصور أنه يتظاهر بكونه يأخذ عنّي معاني بعض المصطلحات، وشيئاً فشيئاً بدأت الغشاوة الخانقة تزول عن عيني الكامدتين، وأنه بدأ يتعلّم مني كيف يرسم الوجوه البشريّة بالأبيض والأسود، وأنه اشترى مرسما لذلك الاحتياج، وفصّل له أحد مندوبي مشتريات قصره عند الخشّابين قاعدة متحركة على عجلات من تلك المتوفرة في الأسواق، وأصبح مرسمنا ينتقل بين المسبح والمجلس الزجاجي، وأحياناً في الفناء المُحاط بسلسلة مترابطة من شجر الكرفس، تخال الاثنتين منهما واحدة. وهو فناء معبّد كالأرصفة، أخطو فيه وأنا أنتظر خروجه بهذه الطريقة: خطوة على مربّع وأتجاوز المربع الذي بعده لتستقر قدمي على الذي بعده، وألتزم بهذا النمط في الخطوِ وكأنني صبيّ يلعبُ الخطّة، فيما حرّاس الفناء يتابعونني على شاشاتهم وهم يرمونني إما بالتظرّف السمج أو الحمق السمج أيضاً.
يأتي الحدائقي الذي يدفعونه للمجيء لمجرد إضفاء الاطمئنان على وحدتي المتوجسة من رصاصة غادرة تقتحم ترقوتي، فيرشّ هذا الفناء بالماء، فتتبخر حرارته صاعدة في الجوّ وكأنّها أرواح تنبعث من قبورها في تمايل دخانيّ، وتفرش سجّادة مربّعة مساحتها 3x3، والكراسي البلاستيكيّة البيضاء على حوافها، وفي الوسط مرسمنا، أمّا هو (أعني سيدي الرئيس) فلعله أحبّ هذا التغيير البالغ البساطة لمجرّد التهرّب من إضرار هواء التكييف بمفاصله ومفاصلي، وبدا لي أنني أصبحت أروق له، وربما أفكر بعد أسبوع أو عشرة أيام بأنني سأصبح بالمرة أثيرا عنده...
لنفترض أن الزعيم اقتنع وازدادَ تمسكاً بالفكرة عندما أوحيتُ إليه أنّ جميع الملَكات والمواهب تتحرّر في الهواء الطلق ما لم يؤثر عليها تنغيص الضجيج أو قسوة الطقس، بخاصّةٍ مواهبنا الإبداعيّة؛ التي تتواصل مع الطبيعة بقدر ما تكون قريبة منها، ويقترنُ استحسانها فيما بعد باستحضار الأجواء التي أُبدِعتْ فيها، وكأنّك عندئذ تستعيد وصف رحلة سعيدة. فيصيح مجيباً بكل البراءة الإنسانية التي نجح في إخفائها أكثر من ربع قرن وهو يخاطبني أنا المسكين: يا ألله، تقول هذا وأنت لم تعرفِ الطبيعة، دعني أنا أحدثك عنها.
لنتوهم أنه عندما بدأ يتقنُ الرسم وكنا ما نزال في دروس البروفايل بقلم الرصاص المدّبب، فإذا نجح في وصل أقواس الوجه بخطوطه وتكوّنت الملامح فعندئذ تصيبه فرحة المتفاجئ التي تصيب كلّ من لم يعتادوا بعدُ أن يتحكموا بخيالهم وحده في الشكل الذي يريدون، وأحيانا يرسم شجرة ملتوية الأغصان، فيظهر له الشكل النهائي أفضلَ مما توقعه؛ فتنتابه الأريحيّة قائلاً: ما أجملَ الطبيعة، وهو إنما يعني: ما أجمل ما أنجزتُه، ويصيح بالقهوجيّ (أو خادم الشاي) فيصبّ شايا بالحليب أو حليبا بالزنجبيل، ويقف على تخوم البساط مرتسمةً على وجهه نظرات صلدة باهتة كمن يتململ، وتلك إشارات لم أفلح في التقاطها بطبيعتي العاديّة إلى أن انضمّت إليها كومة أخرى من الإشارات فاستنرت بها لكن بعد فوات الأوان، بعدما ملّ مني، وقرّر أن يخفيني في الجبّ الذي أستعيد الآن فيه هذه الذكريات وأنا أقبع خلف الشمس...
أخرج من جميع هذه الشطحات التي يصورها لي ذهني المتأرجح وأنا أتقمص تلك الشخصيات الإبداعية التي استطاعت أن تكتب وترسم للزعيم إبداعاته ويصدرها هو من دون أن يمهرها باسمه؟ من ذا الذي يستطيع أن يصدق هذا، وإن كان قادراً على أن يلتذّ بتخيله لهذا التوصيف والتصوير النفسي لذلك الزعيم العظيم في تقلباته الممضّة بين الإبداع والملل الوجودي من طول العمر وضيق الصدر وقصر الأمل والشعور بالنهاية القريبة؟ وأية سمادير مهما بلغت في تطرفها وكرمها ترضى أن تتقبل أن كائنات لمبدعين أحياء –مهما بلغت ماشوسيتها- تقدر أن تعطي هذا العطاء الإبداعي في ظل ذلك التهديد القاصم؟
إنني أستحضر كل هذا في صور خاطفة موازية، لا تكاد تفارقني إلا عندما أصل إلى نهاية رواية "اخرج منها يا ملعون"، نهاية الرواية التي تحاول أن تلقي في روعنا الكامد أن جميع المآسي والبلاءات المحيطة بالكائن الجغرافي المضعضع (العراق) إنما تقدمها لنا هذا الرواية وكأنها تريد أن تقول لنا: إن العراق معادل موضوعي لكل بلداننا، وإنه مع كل تلك المآسي والبلاءات التي عايشناها في الرواية التي بين أيدينا، فإن الرواية تتنبأ لكل تلك البقع المختلفة ولكل أولئك الزعماء المختلفين بنهاية وحيدة أخيرة لا مناص منها: نهاية الغزو، ونهاية الزعيم!!! (ثلاث علامات تعجب تؤكد استحالة أن يكون أحدٌ تجرأ على أن يساعد الرئيس في كتابة شيء مثل هذا وتنقيحه ثم نجا من الإطاحة برأسه بعد إحاطته بمثل هذا السر الخطير).
أما عن نهاية المحتل فتقول الرواية الحقيقية "اخرج منها يا ملعون":
"ردد سالم عند ذاك بصوت متهدج، بعد أن فاضت الدموع في عينيه، وفي عيون الجميع، وبكت نخوة وخشوعاً وحبوراً:
(بسم الله الرحمن الرحيم.. ألم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم ضيرا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول).
لتقول الرواية بعد ذلك مباشرة:
وردد أيضاً:
(قل اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير).
ومن دون أي مرجح يستطيع أن يؤكد لنا إن كان الزعيم هو كاتبها أم أنه تبنى كتابتها أو أم أنها كتبت له؛ تنتهي الرواية بعبارة:
"والله أكبر"...
وكأنها لا ينقصها لتكتمل عليها دمغة صدام إلا أن تضيف:
"وعاش العراق... وليخسأ الخاسئون".