خلق الإنسان مفطورا على درك رغبته ومصلحته في الحياة،باحثا عن أيسر وأجلّ الوسائل الميسّرة لوجوده سالما،متحرّرا من العوائق والمثبّطات،فوثب يستنطق وظائف الأشياء من حوله،ليعلم مدى إفادته منها.ولكنّه اختلف مع أخيه الإنسان في تفسير سرّ وجوده ووجود هذه الأشياء المسخّرة له.فمنهم من اكتفى بوظيفتها المادّية وفوائدها ،ومنهم من تجاوز بفكره ذلك إلى البحث عن كنه مسخّرها بهذه التّناسقية في الوجود،فانتقل إلى ما وراء الشّيء ،وانتهى إلى سرّ وجوده في الأرض، وتشكّلت عقيدته وفقا لذلك..
هنا يظهر تأثير العقائد في التّصوّر ،والتّفكير،والتّفسير،والت طبيق مسلكا في الحياة.لندرك أنّ العقيدة تشكّل صورة ذهنية أساسية تتمركز حولها ،تتراصّ تحتها وتصطفّ كلّ القيم التي تشكّل بدورها وتحفّ مختلف السلوكات البشرية ،مجملة في "الصّورة الثّقافية للإنسان".وعن هذه العقائد تنبثق كلّ الفلسفات البشرية.
ولا يستطيع العلم أن يتجرّد من العقيدة مهما أغرق في الدّقّة والموضوعية لأنها مصدر تعلّمه والتّفكير فيه .فالعقيدة والعلم في تنافذ وتراشد ،وكلاهما مرشد للعقل البشري.
وهذه الصّور المشكّلة لجسم الأشياء هي التي تحصر الكتل للعقل ليعقلها بعد تحجيمها لأنّه لن يستوعب شيئا في المطلق.وبلوغ عقيدة التّوحيد هي قمّة العلم في الوجود ،بها يعرف الإنسان سرّ وجوده.
فالعقيدة ـ إذاً ـ هي مصدر كلّ ثقافة بشرية،وتتباين هذه الثّقافات بتباين هذه المعتقدات،ذلك أنّ العقيدة تشكّل المرجعية الفكرية لكلّ إنسان.فهي بؤرة ومنطلق مصدر كلّ مكوّن ثقافي للفرد ومجموعته.وعنها ينبثق نظام الحياة للفرد والجماعة لأنّه من التّرهيب والتّرغيب المنسكب عن نظريات وقوانين المعتقد تنبثق الأوامر والنّواهي كقيم تطبيق من المعتقد ،وتتشكّل القناعات الفكرية الموجّهة لحركة الإنسان وممارساته اليومية،فهي منبت الذّائقة ،ومنطلق الفكر،وقاعدة الوجدان.
إنّ تأثير العقيدة في الذّائقة يحدّد مقاييس الجمال وشروطه .الجمال هو أثر العقيدة في الذّائقة يرشد فيه العقل الأهواء النّفسية ،ويولّد عواطفها وينمّيها فيُنتج عناصر الإعجاب.إنّ اختلاف معايير الحكم هي نتاج اختلاف عقائدي بالدّرجة الأولى إذا سلّمنا بأنّ العقائد هي مصدر كلّ ثقافة.إنّ العلمانية التي تدّعي التّجرّد من كل عقيدة و إيديولوجيا ،هي في حدّ ذاتها معتقد وإيديولوجيا.وما ادّعاء تجريد العلمانية من كلّ عقيدة ما هي إلاّ مخاتلات مُغْرضة من أعداء هذه الأمّة كالصّهيونية الماسونية حتّى لا يقوم الإسلام على قائمة العقيدة الصّحيحة فيحدث انقلابا عالميا يعود فيه الأعداء،ويتراجعون القهقرى إلى حيث يستحقّون.
وبعد كل هذا، يأتي أنّ كلّ ما يثير الإنسان فهو متناغم مع معتقده سلبا أم إيجابا لأن الاستجابة تكون بعد استشارة المعتقد ،وغالبا ما يكون عند العامّة إغفال العقل ،واستحضار الأهواء بحيث يصير الهوى هو المعتقد القائد،وكثيرا عند الخاصّة من أهل العلم أنّ العقل هو ربّان سفينة الحياة،لهذا قال أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ :" العقل كالبصر والشّرع كالشّعاع."
بدونه فهو مظلم،محجوب عن نور الله الذي وهب لكلّ أبناء البشرية.ونعمة العقل تكمن في البحث عن الحق والحقيقة .
إنّ المعتقد أو العقيدة تترجم بغشيانها لنفسية صاحبها نظرته إلى الصّورة وإلى الوجود. إنّ ما يثير هذا إعجابا بالصّورة ،قد يثير الآخر سخطا ونفورا.
ولمّا كانت الصّورة الذّهنية أو المرئية على علاقة مباشرة بالفهم فإنها تظلّ بدورها مرتبطة بوعي الإنسان تؤثّر في عقيدته كما تتأثّر بها.
ـ أبو حامد محمد بن محمد الغزالي:معارج القدس في مدارج معرفة النفس.شركة الشّهاب.الجزائر/د.ت/. ص57.