تدبـُّر الأمثال القرآنية -4
(ينعق بما لا يسمع إلآ..)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ – 171 (البقرة)
قبل التدبر في نص المثل مباشرة لا بد من النظر في الآيات السابقة له :
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ 165 إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ 166 وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ 167 يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ 168 إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ 169 وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ 170 وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ 171
فنلاحظ أنًّ هذا المثل جاء بعد عدة آيات تبين صنفاً من الناس يحبون أسيادهم كحب الله ولذلك يتبعونـهم دون وعي استجابة لشهواتهم ومطالبهم . وسيتبرأ هؤلاء الأسياد من تابعيهم يوم القيامة عندما تنكشف الحقائق وتبرز أحقية العذاب . وعندئذ يدرك التابعون أنـهم كانوا كالبهائم يتبعون مضليهم بـما لا يعون، فيشبه حالهم البهائم التي تتبع راعيها وتكون رهن إشارته دون وعي أو إدراك ، فهم صم (لا يدركون ما يقال لهم) ، بكم لم يعوا كلام الله تعالى خالقهم ولم يتبعوه (فلا يستطيعون التعبير عن أي حقيقة لعدم وجود حقائق راسخة في قلوبهم) .
ولقد شبه الله تعالى الكفرة والفاسقين بالأنعام في مواضع أخرى من القرآن الكريم كقوله :
في الأعراف :
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ 179
وفي الفرقان :
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا 44
ويصبح معنى المثل بوضوح وبساطة :
ومثل الذين كفروا (بالله وآياته ولم يروها ولم يسمعوا أوامره الواضحة الجلية ) ، كمثل الذي ينعق (راعي الغنم -تمثيلاً لقادة الكفر) بما (الأغنام تمثيلاً للكافرين) لا يسمع إلا دعاء ونداء ( لايسمعون إلا صوتاً مبهماً دون إدراك معناه ، فيسوقها الرعاة بنعيقهم أينما شاؤوا دون أن تفهم هذه الأغنام معنى نعيقهم ولا النتيجة التي سيصلون لها هل هي لأعشاب تأكلها أم لمكان الجزر ... صم ( لايدركون) بكم (لا يستطيعون التعبير عن الحقائق لعدم رسوخها في قلوبهم) عمي ( لا يرون الحقائق) فهم لا يعقلون ( وهي العلة الحقيقية المصابون بها).
وقد يختلف نمط الراعي بحسب الجماعة التي تحبه وتعتقد به كراع لـها ، فقد يكون مغنياً أو مروِّج موضة، وقد يكون تاجراً لا يهمه إلا ترويج بضائعه ، وقد يكون عسكرياً أو رئيس حزب سياسي ...
ينطبق هذا المثل على جميع الفرق إلا المؤمنين الذين استخدموا حواسهم واستدلوا بها على خالقهم ، وهو الوحيد الذي يستحق الطاعة لأنه الولي الذي يرشدهم لـما يسعدهم، ولذلك لا يطيعون غيره أو يطيعون رسله ممن يأمرهم بـما يرضي الله عز وجل وما جاءت به أحكامه وشريعته.
فهذا المثل يشبِّـه جميع الناس بمجموعتين رئيسيتين إحداهما عاقلة مدركة أدركت أن لها خالقاً عالماً علاماً ولياً لها وعليها أن تتبع إرشادات خالقها ورسله ، والمجوعة الثانية كبيرة مؤلفة من مجموعات فرق من القطعان المختلفة الاتجاهات تسوقها رعيان بما يحقق لها مصالحها الخاصة، وهم يتبعون بطاعة هذه الرعيان دون وعي ولا إدراك بل حسب الإشارة والصوت الناعق غير المفهوم.
تدبـُّر الأمثال القرآنية -5
(مثل الذين ينفقون أموالهم)
بسم الله الرحمن الرحيم
مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ 261 (البقرة)
يبين هذا المثل صورة المال المنفق في سبيل الله ، أي منفق بخالص النية للوصول إلى رضا الله ومحبته وقربه وليس لأي غرض شخصي . فمثال إنفاق كل وحدة مالية منه كإنبات حبة من القمح زرعت بأرض خصبة فتنبت نبتة ذات سبع سنابل ، وفي كل سنبلة مئة حبة . فمعنى ذلك أن نبات كل حبة ستتولد منها مئة حبة حــيـَّــة قابلة للإنبات المماثل.حتى يوم القيامة ،والله يضاعف لمن يشاء حسب النوايا والمحبة ودرجة القرب منه سبحانه وتعالى ، فقد تنتج أكثر من سبع سنابل وفي كل سنبلة أكثر من مئة حبة وهكذا فلا حدود لمكافأة الله تعالى. فهو الواسع الذي لا حدود لسعته وهو العليم بنوايا الإنفاق، ويكون العطاء على قدر هذه السعة والعلم، جلت أسماء الله تعالى وعظمت.
فلنتعظ ولنسارع للخيرات والإنفاق في سبيل الله. لنكتسب المكافأة التي لا يعلم مقدارها النهائي إلا الله تعالى ( الواسع العليم) .