فوق ظهر حمار هزيل ، يجوب الرجل طرقات القرية ، يضرب على طبلته الكبيرة بعصا غليظة : وستشيع الجنازة ظهر اليوم ، والعزاء فى ( المضيفة ) الكبيرة.
قبعنا خلف ( المضيفة ) ، تحت شجرة الجميز العتيقة ، نتبادل الهمس فيما بيننا عن ذلك الرجل الذى مات اليوم .
- أتراهنونى على أن هذا الرجل لم يمت ؟
- لا ، لقد مات ، فأهل القرية جميعا لاخبر عندهم إلا خبر موته .. هكذا رد أحد رفاقى ،
- بينما تعثر ثالث فى كلماته هامسا وعيناه تدوران فى كل اتجاه ، متوقعا هبوط الحانوتى علينا من فوق سطح المضيفة ،
يقولون : إنه لن يموت إلا بعد أن يدفن أهل القرية جميعاً
.. عادت بى الذاكرة إلى يوم ماتت أمى ، وأنا بعد فى السادسة ؛ جاء الحانوتى إلى بيتنا ؛ فتأملته للمرة الأولى ، فقد كنت ألمحه يطوى الطريق طياً كالبرق ، فلا تكاد ملامحه تثبت فى ذاكرتى ، لكنه اليوم أتى إلى دارنا ..
رجل طويل كمارد ، نحيف كعود ذرة ، جاف المحيا كغصن يابس ، رفيع الأنف ، طويلها ، حاد النظرات ، وكأن الشرر يتطاير من عينيه ، وما أن عبر باب دارنا حتى صاح فى صوت جهورى ناهق : هل كل شئ جاهز ؟ فظننت ساعتها أنه يسأل عن أشياء مجهزة سلفاً لدفن كل من بالدار ، فقد قالت خالتى ذات يوم : إنه ما من دار يدخلها حتى يموت أهلها تباعا .. تملكنى الرعب ؛ فعدوت بأقصى ما أستطيع إلى نهاية الدار ، وارتقيت السلم الخشبى إلى السطح ، واختبأت بين أعواد الحطب أرقب مايجرى ، بعد قليل خرج الرهط يحملون نعش أمى ، يتقدمهم الحانوتى ، بينما انهمرتْ دموعى حزنا وخوفا.. ومنذ ذلك اليوم اختزلت قضية الحياة والموت فى شخص رجل واحد ، هو حانوتى قريتنا ، وكنت أظنه الحانوتى الوحيد فى العالم.
بعد موت حانوتى قريتنا بأسابيع ، توفى أبى صباح يوم مطير ، فأرسلنا إلى القرية المجاورة من يحضر الحانوتى ، فعاد إلينا بخبر معناه سفر الأخير .. طالت ساعات التفكير والتشاور ، ورأى البعض ضرورة الإسراع بدفن أبى .. تأملنى عمى بنظرة مدققة من خلال عينين ضيقتين ، ثم فاجأنى بسؤال - لعمرى لم أتوقعه ماحييت
- ألست ابنه ؟
- ما بك يا عمى ؟! أنا ابنه بالطبع
- حسناً ، فلتقم على تجهيزه ودفنه إذن .
نزل علىّ كلامه كالصاعقة ، وأحسست بقلبى ينخلع ، وأنفاسى تتوقف ، وتكورت داخل ذاتى ، وفرتْ أعماقى من أعماقى ، وراحت أفكارى بددا ، وزاغت عيناى صدمة ، وكادت روحى تغادر جسدى رعبا .. لكن صوت الرجال أعادنى إلى بعض نفسى ، حيث أكدوا جميعا أحقيتى بما أشار به عمى ، ولأننا أحياناً نجدنا مرغمين على أن نفعل ماهو ضد رغبتنا ، ولأن هناك مواقف يجب أن نظهر فيها رجولتنا وقوة معدننا ؛ فقد وجدتنى - دون وعى منى - أهز رأسى علامة الموافقة .
أنهيت الأمر كله بمساعدة البعض ، وعدت من المدافن شبه ميت ، فلا أنا مصدق ما حدث ، ولا عقلى مستوعب مافعلت .
بعد أيام دق باب الدار ؛ فقمت لفتحه ، وجدت عجوزا ، ضامرة ، محدودبة الظهر ، متشحة بالسواد ، تقف خلفها فتاة تبكى ، هى ابنتها على مايبدو
- نعم يا خالة .. تفضلى
- قالت فى صوت مرتعش باكِ : أطال الله عمرك يا ولدى ، لقد توفى زوجى ، وحانوتى القرية المجاورة أقعده المرض ؛ فأشاروا علىّ بالمجئ إليك.