في حضرة القلم
في حضرة القلم
مهما حاولتَ أن تطوي صفحة ما يدور حولك ، في أرجاء الوطن العربي وأصقاعه فلن تفلح في الهروب أمام ما يستجد من تطورات وتغيرات ، قد تُطوى صفحة ما ؛ لكنها تفاجئك أنها لا تزال تستحوذ على مجريات الأحداث .
هذا حال كل من يتعاطى الواقع العربي ..
عرفت الكتابة السياسية منذ سبع عشرة سنة في مقالات تناولت فيها واقعنا الفلسطيني آنذاك وما يعتريها من مسيرة تفاوضية مذلة لنا كفلسطينيين .
لم أنشر تلك المقالات ، التي كانت مصاغة بشكل أقرب للخاطرة السياسية .
بدأت فعليا نشر مقالاتي السياسية معَ بَدْء انتفاضة الأقصى عبر صحيفة الرسالة ، ولم يُنشر لي سوى مقالات قليلة وِفق ما كان يقره مدير التحرير ، ويناسب طبيعة السياسة العامة للصحيفة في تلك الأثناء .
انقطعت بعدها ثلاثة أعوام .. لأعاود بعدها نشاطي الأدبي والمقالي في موقعيْ رابطة أدباء الشام ودنيا الوطن .
وتلى ذلك النشاط فترة انقطاع استمرت عامين ، تلاها نشاط لمقالات قليلة ، تلاها انقطاع لعامين ..
إلى أن بدأت الكتابة أدبا وفكرا وسياسة عبر صفحتي في الفيسبوك والمنتديات الثقافية والأدبية منذ عامين تقريبا .
ما أقره وأعترف به :
أن الكتابة السياسية التي ترقى وتقدم تطورا في الوعي وتنهض بالواقع وتسير نحو التغير هي تلك الكتابة التي تكون رهنا لفكر ثاقب ومبدأ راسخ .
قد يبدو هذا نوعا من التنظير الفلسفي ، تجاوزته مستخرجات السياسة الملتوية ، فالناظر إلى الصحافة والاعلام الإلكتروني يرى أن الأقلام تسخر في غالبها الأغلب لخدمة المصالح التي يسعى أصحاب الأقلام ومن يقفون خلفهم لتقديم وجبات جاهزة للعقول الاستهلاكية .
فإما أن تكون مع هذا الفريق أو تكون مع الفريق المضاد .
وكمثال صارخ لذوي الأقلام السياسية :
إما أن تنظر لما يعتمل في مصر على أنه انقلاب مجرم ، أو أن ما يدور الآن في المحروسة هو أزهى عصور السياسة والتقدم .
وإما أن يكون السيسي هو المخلص لمصر وهو رئيسها القادم بلا منازع وأنه أمل الرهط الذين يرون أن تصفيةَ الإخوان المسلمين ـ ومن يسير في مسارهم الرافض لخارطة طريق العسكر ـ والقضاءَ عليهم ؛ هو الواجبُ القومي الذي يجب أن تُسَخَّرَ في سبيله الجيوش العسكرية والجيوش الإعلامية .
وإما أن تكون رافضا لأن تجعل من قلمك وفكرك وما مُنِحته ـ من رؤية مبصرة تؤيدها كل الوقائعُ على الأرض وكل الدلائل الحسية والملموسة ـ فلكا يسير في فضاءات الواقع الجديد . وحينها ستتهم بأنك إخواني إرهابي مجرم ، أو خارج عن الصف العربي ومتنكب لصراط الهدى الذي خطته لك النظارة السوداء التي يخاطبك السيسي من ورائها .
لقد انعتقت من ربقة الحزبية ، ولم أجعل العقلية التنظيمية هي المسيطرة على قلمي أو كياني أو فكري .
فكانت انتقاداتي الحادة والشديدة واللاذعة للحركة الإسلامية ، والتي لم أكن في يوم من الأيام عدوا لها ، ولم أدخل في صراعات فكرية معها .
ولم أرتم للحظة في أحضان التضليل الذي يكاد للقضاء على جذور جماعة انتمى لها خيرة الشهداء في وطني فلسطين .
لكنني لم أكن مغمضا العين عن رؤية الخلل الذي يعتري الحركة والخطر الذي ينبع من داخلها نتيجة التدافع نحو قطف ثمار لم تستوِ على أمِّها بعد .
وما زالت مواقفي من السياسيات والانتهاجات ومنظومات التعامل وآليات التعاطي مع الواقع السياسي والاجتماعي والدعوي المتبعة في الحركة الإسلامية محليا وعربيا واضحة ، تتبلور في ضرورة تبني الرؤى التي تفصل بين التنظيم وبين سياسة الحكم ، وفي أن تكون المصلحة العليا ليست البقاء في الحكم ؛ بل في أن يرى المواطن الصدقية لما يرفع من شعارات وما يقدم من برامج إصلاحية ونهضوية واقعا معاشا .
لذلك فإن قلمي ليس بتابع أو ظلا لجهة ، ولا يمكن له أن يكون مرآة لغير ما أراه وما أؤمن به .
قلم يخطئ ويصيب ، يعتريه القصور أحيانا ، بل كثيرا .
يصيبه الفتور حينا ، وحينا يكون نشطا .
قلم ليس فيه ما يشتهون أو كثيرٌ مما يدغدغ مشاعر التواقين للانتشاء بواقع جميل .
ولن أدعي أنه قلم يرصد كل ما يدور ويسجل درجة الكمال في استجلائه .. فهذا لا يمكن لبشري أن يقف عليه .
لا ينفر من الواقع ، ولا يغض الطرف عن المثالب والسوءات التي تسود في واقع التردي العربي .
يرسم حدود الضياع ؛ لا ليدعوَ للخلود إليه ، بل ليسعى لتحجيم مرارات ذلك الضياع ومتاهاته .
قلم لا أبغي اشتهارَه أو أن يكون الأولَ بين الأقلام .
لكنني لن أتخلى عن دوري في أن أكون صاحبَ رأيٍ ورؤية ..
أسعى لأن يؤمنَ بها من كان يرى في الواقع العربي أن سبل التغيير والنهوض لا تقوم إلا على أكتاف الواثقين بأن الغد يحمل الألم الشديد . وأن الأمل في التخفيف من حدة ذاك الألم لا تكون بمجرد أقلام لها صرير على الأوراق .
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خلود محمد جمعة
