المتغير الأساسى أن الولايات المتحدة الأمريكية تتخلى تدريجياً عن كونها القوة العظمى الوحيدة وتسعى بكامل ارادتها لاستعادة الشراكة الروسية فى هذا الموقع الذى كلفها طوال العقود الماضية خسائر فادحة مادياً وبشرياً ، ولاتمام ذلك بشكل يحفظ ماء الوجه ، تعمل الولايات المتحدة على ايجاد حلول متعجلة وشبه نهائية لصراعات الشرق الوسط بما يدعم استقرار المنطقة مستقبلاً بشكل لا يؤدى لتحولات ضخمة فى غيبة نفوذها تعجز حياله عن التصرف والرد فتفقد كل شئ .
هى تتخلى بارادتها عن بعض مواقع نفوذها الاستراتيجية لصالح روسيا لاعادة التوازن لقمة العالم وفق خطة مدروسة تنقذ الولايات المتحدة من السقوط المدوى بعد الاخفاقات المتكررة فى الشرق الأوسط والأعباء الثقيلة التى تحملتها نتيجة التدخل المباشر والفج فى كثير من ملفاته الشائكة والحساسة خاصة فى العراق وأفغانستان ، مع التعويض بالاتجاه شرقاً نحو آسيا – خاصة الصين والهند - ، مع الحرص على أن تملأ روسيا الفراغ الأمريكى المتوقع فى المنطقة .
لذلك قبلت الولايات المتحدة الاتفاق النووى الايرانى الغربى الذى حالَ دون انتاج سلاح نووى بدون الحاجة للدخول فى مواجهات عسكرية تزيد من الأعباء والمسئوليات على الجانب الأمريكى ، وتدفع به الى السير فى طريق السقوط الى نهايته .
كذلك نجاح التوصل الى اتفاق بشأن السلاح الكيميائى السورى ، وتمرير اتفاق التخلص من تلك الأسلحة مقابل التخلى عن فكرة توجيه ضربة عسكرية بعد اعلان أمريكا رسمياً عزمها على ذلك ، ومن ثم عقد مؤتمر السلام جنيف 2 .
وكان لروسيا الدور الأهم والأبرز فى هاتين القضيتين المحوريتين ، وكان واضحاً خلالهما مدى التفاهم وحجم التنسيق والتناغم بين الجانبين الأمريكى والروسى ، بما يؤكد أن العودة الثانية لروسيا للمنطقة واستعادة دورها ونفوذها الدولى لم يأتِ فى اطار تنافسى أو فرض ارادات ، انما هو أمر واقع تستسلم له الولايات المتحدة فى اطار اعادة تشكيل مدروسة لخريطة النفوذ ، تخدم الطموح الروسى وتراعى مضاعفات الشيخوخة الأمريكية .
لن يكون سيناريو التعامل مع الملف المصرى مختلفاً ، بل سيأتى داعماًً لهذا التوجه الثنائى الجديد فى المنطقة ، وقد لاحت بوادره بزيارة الوفد العسكرى الروسى قبل شهرين ، والحديث عن صفقة الأسلحة الروسية لمصر والتى تمولها جهات خليجية .
روسيا ستعمل على الاستفادة من التجربة الأحادية المريرة للولايات المتحدة وستحذر من التدخلات العسكرية المباشرة وستعتمد على القوة الناعمة والتحالف مع حكومات تحقق المصالح المشتركة وتضمن شراكة طويلة الأمد ، تعزز من الحضور الروسى الجديد ، وتؤمن مصادر تمويل بديلة عن الشريك الأمريكى خاصة فى الجانب العسكرى والاقتصادى ، مع الحرص على تمكين الحكومات التقليدية وتغذية عوامل الاستقرار حتى لا يؤدى ما يجرى على الساحة الآن الى تحولات استراتيجية كبرى غير مأمونة على المنطقة تضر بمصالح روسيا والغرب على السواء.
لا تزال تيارات وأحزاب وقوى سياسية فى مصر تنطلق فى اتخاذ مواقف اعتماداً على عالم القطب الأوحد وتحكم الولايات المتحدة فى كل أوراق اللعبة ، ولم تقرأ بعد هذا التحول الاستراتيجى الكبير ؛ بالرغم من وجود مؤشرات قوية على قرب تخلى الولايات المتحدة عن نفط الخليج واتجاهها نحو آسيا فى العقود المقبلة ، وعدم استعدادها للعب نفس الدور الأمنى والسياسى السابق فى المنطقة .
هذا التطور الجديد سيدفع لا محالة باتجاه الاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط ، بعد أن شهدت موجة من الاضطرابات وسنوات من التوتر والفوضى بسبب ضبابية الرؤية وثقل التركة واضطراب التعاطى الأمريكى مع المتغيرات السريعة والمتلاحقة ، مما صنع هذه الاستقطابات الحادة وعرض المصالح الأمريكية ذاتها للخطر .
لن يكون هذا التغير الضخم فى صالح كثير من التيارات والأحزاب المصرية الجديدة التى لعبت على توقع استقرار النفوذ القديم للولايات المتحدة واستمراره ، وستجد هذه القوى صعوبة كبيرة فى اعادة التوازن لمواقفها السابقة بعد أن أمعنت فى الاتجاه غرباً ، وستخسر رهاناتها على الفرس الأمريكى الذى كان يقدم نفسه كمنقذ لكيلا يخرج كلية من حلبة السباق وليحافظ على الحد الأدنى من مكاسبه ومصالحه فى مرحلة التحول هذه ، فى الوقت الذى يبحث فيه عن منقذ ومخرج آمن لورطته فى المنطقة .