ستدرس التجربة على مدى أجيال فهى نقطة تحول فى تاريخ الحركة الاسلامية عموماً ، وستظل ملهمة ومعلمة بتفاصيلها ورموزها وأحداثها التى جعلت الاسلاميين على مفترق طرق ، وربما ننتظر بعض الوقت للوصول الى تصور عام لما ستؤول اليه الأمور ، ومن ثم وضع ملامح للتجربة بما فى ذلك توقع مستقبل الحركة ومدى قابليتها لتحويل ما حدث الى رصيد ايجابى يضاف الى تجاربها ، أو الاستسلام للخطة التى يعدها دائماً الآخرون والسير حثيثاً فى سيناريو الصراع دون جديد يُذكر بالنظر الى الماضى الذى تشابهت حلقاته لدرجة التطابق فى بعض المراحل .
حجج كثيرة يتهرب بها أصحاب الشأن من النقد الذاتى منها الخوف من تبرير الانقضاض على الديمقراطية ، وأن ما حدث سيناريو معد للافشال ومؤامرة على الاخوان وحكم مرسى .
عدم الحذر وسوء تقدير حجم " المؤامرة " خطأ كبير فى حد ذاته أدى بعد ذلك الى أخطاء كبيرة متوالية نتيجة اساءة تقدير لمواقف كثيرة لاحقة فتحولت أزمة الانفصال السريع عن السلطة الى أزمات وأخطر وأكثر تعقيداً من الصعب على المدى البعيد معالجتها .
تهيئة المناخ للعنف بالشكل الذى تابعناه لا يؤثر فقط على شعبية الاسلاميين ويعطى الانطباع العام بأن الحركة لم تتطور ولم تتعلم من أخطاء العقود الماضية بعد أن ثبت فشل العنف مراراً ولم يجن منه الاسلاميون فى كل مرة الا الفشل و العزلة ، بل يظل هو أفضل هدية للآخرين فى حفلة القمع الاستعراضية التى تمهد لعسكرة الحياة السياسية دون أسئلة محرجة للسلطة التى حفظت عن ظهر قلب طريق الوصول والاستمرار أطول فترة ممكنة ما دامت أعلنت الحرب المقدسة على الأشرار .
هناك ما ناضل من أجله الاسلاميون فى تركيا متحقق وراسخ فى الحالة المصرية ، بل حالة التدين داخل الجيش المصرى هى ما يمكن أن نرى عليه الاسلاميين فى تركيا ، ويكفى الاشارة الى اعدام عدنان مندريس بعد فوز الحزب الديمقراطى فى انتخابات عام 1950م لتخفيفه الاجراءات العلمانية الصارمة واعادته الآذان بالعربية وأدائه فريضة الحج سراً ، ولم يستطع أردوغان انجاز جزء كبير من برنامجه الاقتصادى الا عندما تأقلم مع العلمانية وراعى تنوعات الواقع التركى ، فضلاً عن المراحل التى خاضها التيار الاصلاحى وصولاً للحالة البراجماتية المنفتحة ، ويظل الفارق الأهم هو حرص الاسلاميين الأتراك على عدم الانجرار للعنف أو تهيئة مناخه بعد كل انقلاب على الديمقراطية ، فلم يعطوا المسوغ للعسكريين من جهة للاستمرار فى هذا السيناريو ، ومن جهة أخرى حافظوا على رونقهم الجماهيرى بتاريخ ناصع بلا دم ولا ارهاب ، وهذا غير متوفر بالمرة فى الحالة المصرية مما يجعل الارتباط بالتجربة التركية صعوداً وهبوطاً فى غير محله .
كان من الممكن امتصاص صدمة 3 يوليو سريعاً لوضع أول قدم فى طريق ترسيخ الديمقراطية الطويل وضمان البقاء فى المشهد السياسى ، وكان الاسهام فى اجراء انتخابات نزيهة سيعد انجازاً للاسلاميين ، وكان المنطق الذى سيقبله الثوار وأبناء الحركة الاسلامية من قادتهم - اذا رغبوا فى اقناعهم به - هو التراجع قليلاً لكى تتقدم الديمقراطية قليلاً .
الديمقراطية تحتاج الى أمد زمنى ووقت لتترسخ ولو بعيداً عن سيطرة الاسلاميين فى مراحلها الأولى ، انما بمشاركتهم فقط فى بداية الطريق ، وكان هذا سيفيد قضية الديمقراطية وسيفيد الاسلاميين .
لتقوى ويعتادها الشعب وتصبح احدى قضاياه الأساسية ، فى أجواء الاستقرار والأمن ، ولينال الاسلاميون فرصتهم منها بعيداً عن أجواء التربص بعد أن يصبحوا جزءاً من العملية الديمقراطية والتداول ، لا هاجساً معادياً يهددهما .
المرحلة الانتقالية ليست حالة ديمقراطية مستقرة اعتادها الشعب ، بل هى مرحلة عبور نحو الديمقراطية والاستقرار ، وهى مرحلة خطيرة غير مسموح فيها بارتكاب أخطاء بلهاء ، ولا يصلح معها مبدأ المغالبة ولا يعبرها أحد بمفرده منتصراً على الآخرين ، انما تبنى بالتوافق ومشاركة الجميع .
كان من الممكن التسليم بأن المعركة طويلة وعلى جولات ـ وأن الاسلاميين لم يخسروا سوى جولة واحدة ، وأن الرابح هو من يستطيع الاستمرار لتحقيق أهدافه ، ومن يحافظ على جماهيره ومكانته فى الشارع السياسى ليكسب صناديق الانتخاب فى الجولات القادمة .
خصوصية التجربة المصرية تحتم أهمية النقد والتصويب فى حينه ، فاهماله أدى لتراكم الأخطاء وخسارة الحلفاء ، بل لم تخسر الحركة فقط جماهيرها فى الشارع ، انما تخسر اليوم أبناءها أيضاً .