حلقة من مسلسل العنصرية الذى يتعرض له المسلمون يومياً فى أرجاء الأرض ، لكن هنا تُعاد كتابة تاريخ الزفرات والنظرات الأخيرة على ممالك المسلمين وديارهم ، مع ترديد اسم ذلك الرجل المسلم الرائع صالح ديدو ؛ ولما كان أبو عبدالله الصغير آخر ملوك العرب الذين غادروا الأندلس يهم بترك جواده للملك الكاثوليكى فرناندو ويسلمه مفاتيح غرناطة وهى الأثر الأخير لدولة العرب فى اسبانيا وهو يستعطفه ويستدر رحمته " أيها الملك سيد تراثنا وديارنا وأشخاصنا ، فهكذا قضى الله فكن فى ظفرك رحيماً عادلاً " ، كان صالح ديدو نائب رئيس بلدية مبايكى بجمهورية افريقيا الوسطى يرفض الخروج من وطنه مع آلاف المسلمين الذين تم طردهم منها ومن القرى والمدن المحيطة ، ويرفض مرافقة أقربائه الهاربين من عمليات التطهير العرقى الوحشية ، وأصر على البقاء رغم تلقيه تهديدات بالتصفية .
قال صالح ديدو – كما نقلت اللوموند الفرنسية - : " هنا وُلدت وأنجبت أولادى وأنا عضو فى البلدية وهذا وطنى فلماذا أغادر " ، يضحك ديدو الذى أضحكنا على مآسينا ، فلماذا بكى أبو عبدالله الصغير ولماذا غادر ، وكيف وثق فى أعدائه الدمويين تلك الثقة ، هل لأن نذالة الاسبان ووحشيتهم ومحاكم تفتيشهم كانت لاحقة لخروجه وبعد اتفاقيات السلام الوهمية ، فيمَ رأى صالح بعينيه ما يفعله العنصريون الفاشيون بأهله وأبناء دينه ورغم ذلك بقى ، فلا ثقة وعهود ولا اتفاقيات سلام ولا حرب ابادة ولا العالم كله بقادر على اقتلاع انسان من أرضه ومحو هويته .
بمن يذكرنى هذا الرجل وهو يسلم نفسه للوحوش وهو على تمام الثقة بما سيصنعونه به ، لا يستدر العطف والرحمة لأنه خبير بتاريخ وحشيتهم ، وسواء خرج أو لم يخرج وسواء عقد معهم اتفاق سلام أو لم يعقد فهم لن يتغيروا ، وهو أيضاً لا يتغير فهو ذلك المسلم الصالح الذى يحب دينه ويعشق وطنه ، وليس يردد : سأبقى وحدى فى وطنى ولن أغادر كديكتاتور عربى يخشى بعد خلعه مفارقة فيلاته وقصوره وما غنمه من أراض وثروات وهو فى السلطة ، وليس كما يزعم الجبناء فاراً بدينه وعقيدته الى أرض لا تُحز فيها الرقاب ويُهان فيها الدين ويحكمها المهووسون .
صالح ديدو يكتب التاريخ الحقيقى للزفرة العربية المسلمة الأخيرة ، فلا ينبغى أن تكون الزفرة مُغادرة ومهاجرة وفارة وكسيرة ، انما مُواجهة ومعاندة ومستقرة وثابتة فى الأرض وان كانت وحيدة ، ومنتصرة .
لا يئن ديدو ولا يصرخ فليس هناك المعتصم وفرسان الاسلام ، وحتى الحالة الجهادية محبطة تكفر وتستهدف أهل الاسلام وتذر أهل الأوثان وتعف حيث يُباد المسلمون وتستأسد فى ديار الاسلام ، وما صرخت المرأة قديماً الا لأنها كانت على يقين بأن المعتصم سيسمعها وأنه قادر ولديه الامكانيات التى تؤهله للتحرك وحشد الجموع والانتصار ؛ فأين هذا مما يجرى للأمة اليوم من اهانة وسحق على يد جلاديها ومغتصبى حقوقها ومنتهكى أعراضها ومدنسى مقدساتها وناهبى ثرواتها ، وهو لا يضع ثقته فى أحد منهم حتى صديقه وزميله ريمون مونغباندى رئيس بلدية مبايكى الذى قال " سنحاول حماية صالح شقيقنا "
ومتى نفقد الثقة فى عدالة وشهامة الأمم المتحدة وحيادية مجلس الأمن ونزاهة محكمة الجنايات الدولية ، متى يا صالح نتوقف عن احسان الظن بجلادينا فى فرنسا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة واستجداء عدالتهم والاحتكام الى نزاهتهم والوثوق فى أنهم سيعيدون الينا حقوقنا المسلوبة وأراضينا المغتصبة ؟
بقى صالح ديدو وحده فى مبايكى ورفض المغادرة ليصحح مسيرة الزفرة الأخيرة وليطلقها هناك فى أرض الوطن ووسط الأهوال ، رائعة وناصعة تعلم العالم كما فلسفة ابن رشد وعلم وحضارة المسلمين فى الأندلس وافريقيا ، وليحول مشهد الزفرة الحزين الرومانسى الممزوج بالبكاء الى مشهد بطل ضاحك يُقتل وحده فى المواجهة مع آلاف المهووسين بأسلحتهم البيضاء ولا يسهل خداعه ولا يُضحك على ذقنه ولا يقبل الطرد من وطنه كمن أجهش بالبكاء ، فلا نستقبل من جديد علقة عائشة الحرة الساخنة على كرامتنا العربية العارية مرددين نشيد " ابكِ بكاء النساء " .
وفقاً لمنظمة العفو الدولية التى حققت فى مقتله فان مجهولين قدموا الى حى باغيرمى فى مبايكى يسألون أين يقطن صالح ديدو نائب رئيس البلدية الذى رفض الهرب والنزوح ، والذى حاول الاحتماء فى مركز بوليس ، وفى الطريق اعترضه رجال ميليشيا وذبحوه ، وبعد الجريمة قدم جيرانه المسيحيون الحماية لزوجته الحامل وأطفاله الذين جرى نقلهم لاحقاً الى وسط العاصمة بانغى فى انتظار طائرة ستنقلهم خارج البلاد .