الهدف رقم 30.قبل أن يفتح النهار عيونه، كان أحمد قد أخذ موقعه على سطح إحدى العمارات بالشارع المفضي إلى الميدان، تماما كما حدد له في التعليمات. قنينة ماء، علبة طعام، راديو الخدمة، أربع رصاصات و بندقية قنص مزودة بمنظار.
الوضع هادئ، الشارع يلعق جروحه تحت أضواء ساترة. و حدها دوريات الشرطة تتسيد المكان.
الساعات التي تفصله عن بدء المهمة فرصة لأخذ قسط من الراحة و الاسترخاء. جلس على الأرض، أسند ظهره إلى الحائط القصير المطل على الشارع. مد رجليه، أغمض عينيه يعيد شريط التعليمات كما تلقفه من رئيسه : '' أربع رصاصات أربع جماجم! لا أريد رصاصة ضائعة ! اجعلوني أفتخر بكم !
الرأس القلب، الرقبة ! هؤلاء أعداؤكم و أعداء الوطن. إن تمكنوا منكم فلن يرحموكم و لا أولادكم و نساؤكم، فلتفوزوا بهم قبل أن يفعلوا.
كانت الكلمات تخرج من فمه سريعة قوية كالرصاص، مصحوبة بضربات قبضته على الطاولة فتبعث الحماس في نفوس أفراد "القوة الخاصة"، و يتدفق الأدرينالين في العروق.
- أربع رصاصات فقط! ما هذا البخل؟ أسرها إلى زميله فأجابه بأنها احتياطات أمنية، فهم لا يثقون في المجندين الجدد، و يخشون تمردهم لذلك لا يكثرون من الذخيرة.
احتضن بندقيته و ركب إغفاءة أخذته إلى حدود العاشرة صباحا، ليستفيق على صوت اللاسلكي يطلب منه تأكيد وجوده في الموقع و استعداده.
"تمام "
عدل وضعه، تمطى، تثاءب، فرك عينيه، تناول قنينة الماء، أخذ جرعة ثم رش و جهه يبغي إزالة بقايا النعاس.
استدار في مكانه، أطل بحذر على الشارع الذي بدأ يتململ، بعدما انسحبت منه جميع عناصر الشرطة.
مرت ساعات الانتظار بطيئة. أذان صلاة الجمعة يعلن اقتراب وقت الذروة. الراديو يأمره بالجاهزية.
تناول واحدة من رصاصاته، وضعها برفق و انسياب في خزان البندقية و كأنه يستمتع باللحظة. خالطته نشوة ممزوجة بارتباك و هو الذي لم يجرب سلاحه من قبل إلا على رؤوس و قلوب خشبية. تذكر النقط العالية التي كان يحصدها في اختبارات الرماية بمعهد الشرطة. تفوقه في التداريب و إعجاب رؤسائه. تضاعفت نشوته، تراجع ارتباكه وداعبت ابتسامة ثقة شفتيه.
مع انقضاء الصلاة ، أصبح الشارع أكثر ازدحاما، أفواج بشرية تتدفق نحو الميدان. الهتافات تتعالى أكثر فأكثر، حتى تستحيل هديرا يصم الآذان. لا ينافسه إلا أزيز الرصاص و دوي قنابل الغاز.
" الهدف رقم 25 يدخل مجالك الآن"
" عُلم"
في جيب سترته صور جميع المستهدفين، لكنه لا يحتاجها، فقد حفظ ملامحهم عن ظهر قلب. وخزن كل المعلومات المتعلقة بهم.
"الهدف رقم 25، محمود، طالب بكلية الطب، متفوق في دراسته، حديث العهد بالانضمام إلى الجماعة لكنه متحمس و مندفع إلى درجة التهور. نشيط في الجامعة، و له تأثير كبير على زملائه"
يستظهر المعلومات، و هو يمسح بعينيه الشارع طولا و عرضا. يجده في وقت وجيز، يعلم مركز العمليات أنه استلمه. بدأت اللعبة فعليا الآن.
قصر قامة محمود و الازدحام الشديد، يشوشان عليه. يظهر تارة و يختفي أخرى، فلا تكاد تبدو منه إلا يمناه الملوحة في الهواء، ما بين قبضة عزم و شارة نصر.
يصوب أحمد بندقيته، يتحفز، يتذكر التعليمات:" لا أريد رصاصة ضائعة" يتريث، يقترب أحد الشباب من محمود، يرفعه على كتفيه... ها هو الآن أمامه على طبق من ذهب.
منظار البندقية، يجعل وجه الهدف قريبا جدا منه، تقع العين على العين. يتذكر نصائح زملائه باجتناب النظر في عين الهدف.
يحس بحرارته ترتفع، جسده يكاد يشتعل تحت و طأة وهج الشمس و ثقل البذلة العسكرية. قلبه يخفق بقوة، تتسارع أنفاسه.
" ماذا هل سقطت في الفخ؟؟"
يجاهد لاستعادة السيطرة على الموقف ، يسترجع أمجاده في التداريب و تفوقه حتى على القدامى من زملائه. يتنفس بعمق. العرق المنسكب بغزارة من جبينه، يجعل الصورة ضبابية. يغمض عينيه بقوة لاعتصار الدموع المترقرقة.
الهدف يدنو من نهاية الشارع، الضغط يزداد، تضاعفه و شوشة الجهاز: "أطلق! ماذا تنتظر؟؟"
يستجمع قواه، يلم شتات ذهنه.
لا يمكن أن أخسر اختباري الأول، هذه درجتي الأولى على سلم المجد. كتفي ما تزال فارغة، هذه فرصتي...
يقترب أصبعه من الزناد، يلامسه برفق،ترتعش يده.
صوت جديد و بنبرة أقوى يصل عبر الجهاز: " المجند رقم 30 أنت تخالف الضوابط العسكرية و تعرض نفسك لعقوبات قاسية! أطلق! !"
ثوان تفصل الهدف عن الخروج من مجاله. ينتفض. يعض على شفتيه. يضغط بكامل قوته.
لا يتحرك الزناد.
رصاصتان كانتا ترقبان الوضع عن كثب، تغادران بندقيتهما على عجل لتستقرا في الجمجمتين.