يضر قادة الاسلاميين حركتهم باستمرار ويقدمون هدايا ذهبية للخصوم ويظل تبنى خيار المواجهة هو الهدية الأكبر التى تضاعف من أعداد الكارهين وتقلب المعادلة الجماهيرية وتنقل الاسلاميين من مربع الانجازات الى مربع العزلة فيسهل ضربهم .
من القادة الاسلاميين القلائل الذين فطنوا لأهمية المشاركة والتحالف وكارثية سلوك الاستعداء وتكثير الخصوم والاستعلاء على الواقع والقوى السياسية الأخرى ، كان الراحل الكبير محفوظ نحناح رحمه الله .
كان عضو مجلس شورى التنظيم العالمى للاخوان ، وقد عارض وناضل وسُجن وعُذب ، ثم شارك فى انتخابات الرئاسة عام 94م لكن تم تزوير الانتخابات لصالح الأمين زروال ، والجميع كان يعلم من هو الفائز ، وعندما حدثت أزمة طارئة بين زروال وقادة الجيش قال للجنرالات ذات شمخة كاذبة : أنا الرئيس المنتخب ، فذكروه بما قد كان فى أمر الانتخابات وقالوا له : أنت تعرف جيداً من هو الرئيس المنتخب ، فابتلع لسانه ، ثم أطاحوا به .
نحناح نموذج للاسلاميين ، فهو عالم فقيه ناضج الفكر والرؤى لا يتحرك اعتباطاً ولا يتخذ قراراً ولا يخطو خطوة الا بناءاً على دراسة وتأمل واعتبار المصالح والمآلات .
يقدم المشاركة على المفاصلة حتى ولو أرادوا جره اليها بالامعان فى ظلمه سياسياً ، وكان من القلائل الذين حذروا من الوقوع فى هذا الفخ ، ويقدم المصلحة العامة ويبحث عن نقاط التلاقى والقواسم المشتركة مع سائر أبناء الوطن .
كان دائماً صاحب المبادرة حتى فى أشد أحواله مظلومية ، لأنه كان يعى جيداً أن بناء العلاقة الجيدة بين الاسلاميين والسلطة بالتوازن المطلوب على أساس المبادئ الوطنية المشتركة هو المستهدف ، وأن المراد للحركة الاسلامية أن تبقى شاردة خارجة عن الشرعية واطار القانون متهمة بالعداء للحلول والشراكات الوطنية ، مما يعطى المسوغ للانقضاض عليها بعد تشويهها واستباحتها .
يعلم جيداً أنها مؤامرة خائبة لاستئصال الاسلاميين يحولها الاسلاميون عادة لمؤامرة ناجحة بادهاش الخصوم بالتلبس بتفاصيلها وأحداثها ومواقفها حتى النهاية .
كان هو صوت الحكمة خلال عشرية الدم الجزائرى ، وحاول منع وقوع الكارثة بعد أن فقد الجميع الرشد وطغت فتاوى الثأر وصارت الجزائر تصحو وتنام على مجزرة ، وسقط أكثر من مائة ألف قتيل وأصبحت الدولة الجزائرية مهددة بالسقوط أو التقسيم .
اتهمته الجبهة الاسلامية للانقاذ وقطاع واسع من الاسلاميين حتى داخل حركته " حركة مجتمع السلم " بالخيانة والعمالة والتواطؤ مع الجيش – كالعادة - ، لكنهم لاحقاً أيقنوا مدى صوابية رؤيته ومدى تجرده ومصداقيته وحرصه على ألا يُستأصل التيار الاسلامى بحجة الحفاظ على الدولة وألا يكون مجرد ترس فى آلة استهداف الاسلاميين واقصائهم .
رغم ما فعله الجيش اختار نحناح المشاركة للحفاظ على الدولة والاسلاميين معاً ، ورغم يقينه بظلمه وبأنه الفائز فى انتخابات الرئاسة وبأن الانتخابات تم تزييفها لصالح مرشح الجيش ، الا أنه استمر ليقطع الطريق أمام المتربصين وسعياً لانهاء مسلسل الدم وحفاظاً على المكاسب القليلة التى حققها الاسلاميون على يديه فى هذا المناخ الثأرى الدموى الاستئصالى .
وبالفعل ثبت يقيناً أنه كان على صواب وأن منهجه المشارك الصبور هو الأقرب للقبول والأكثر ملاءمة وفاعلية للتعامل مع المتغيرات والأحداث ، واعترف بذلك كثير ممن هاجموه وتطاولوا عليه ، لكن بعد فوات الأوان .
تفتفد الحركة الاسلامية فى مصر اليوم نموذجاً قوياً جسوراً كمحفوظ نحناح رحمه الله ، يحميها من نفسها ومن خيارات قادتها المهلكة ويحمى مكتسباتها القليلة التى تحققت على أرض الواقع .
المشهد لا يختلف كثيراً وثبت أن نحناح كان هو الرئيس الشرعى وتنازل عن هذا الحق ، ولم يمنعه ذلك عن المشاركة فى الحكومة ويرضى بالقليل من المناصب ليحمى حركته من التصفية والتهميش ويسهم فى الحفاظ على الدولة وجيشها .
درس نحناح للمشير عبد الفتاح السيسى لا يقل أهمية عن درس الاسلاميين ، فالسياسة ليست خطاً مستقيماً ولا يدرى أحد ما تخبئه الأيام من تطورات ومتغيرات على الساحة ، وصديق الأمس قد تفقده اليوم وحلفاء اليوم أعداء الغد ، وليتأمل المشير عبد الفتاح جيداً موقف الجيش الجزائرى من حليفه الأمين زروال ، فقد تخلى عنه فى لحظة لأنه هو الذى مكنه وصنعه وزور الانتخابات ليجعله رئيساً ، فلم تكن هناك صعوبة تذكر فى الاطاحة به .
الرئاسة ليست الوصول الى الكرسى ، انما فى كيفية الوصول اليه ، والسياسة فن الحذر من الأصدقاء قبل الخصوم .