فى بلدتى الجمالية بمحافظة الدقهلية شاب محتجز بتهمة التعبير عن الرأى ، طالب بكلية الصيدلة اسمه محمد مصطفى عرفات ، رأيتُ صورته فتذكرت شبابى المبكر وفوران الحماسة والملاحقات والهروب ، وظُلمَ العشرات من شباب هذه المدينة المسالمة فى التسعينات ، وفيمَ يحكى الشاب عرفات عن بعض التجاوزات من ضابط فى عربة الترحيلات ، فهؤلاء الشباب الذين قضوا سنوات شبابهم خلف القضبان حكوا لى عن أهوال آثرنا تكتمها لمصلحة الوطن ولقطع النفس التكفيرى .
فى آخر زيارة لى لسجن العقرب كان خاوياً تماماً الا من سجينين أحدهما الشيخ مصطفى حمزة ، فلا حراس ولا مساجين ولا شئ الا بقايا ذكريات وقصص عذابات ومحن وصحبة أحزان وآلام السنين وأساليب الانسان فى مغالبتها بالعبادة والمرح .
يعود مصطفى حمزة الى العقرب من جديد وبعد أن كان وحده يملك هذه المساحات من الأراضى والغرف ، صار لا يستطيع التنفس والتمدد بعد أن ضاق السجن الكئيب بزائريه .
لا جديد فالاسلاميون فى سجون النظام سواء بأخطائهم أو فهلوة الآخرين ، فهكذا يرتاح الغرب ويطمئن الناصريون على مستقبلهم السياسى ولا تقلق اسرائيل على اتفاقية السلام ويقتات الحقوقيون والمحامون وتنتعش جيوب المخبرين والشاويشية .
مهما كان أداء قادتهم السياسى وبتجريد المشهد وخلفياته من التحليل والتفتيش عن الأخطاء والمثالب ، فقد درجوا فوق هذه الأرض ولهم نصيب من خيراتها ولهم ايجابيات وتضحيات ونضال سياسى ونشاط اجتماعى أيقظ الفقراء ولم يخدرهم كما يفعل الآخرون ، والثابت التربص بهم واستغلال براءتهم السياسية وتحويلهم فى أقرب فرصة الى المقصلة ، والتضخيم والتعميم والتشويه جزء من الأخبار المصنوعة فى معاهد الكذب ، والشعب عادة ينخدع بأفانين الحِيل .
يسألوننى ماذا أتوقع فأستدعى حكمة وفلسفة المنصف المرزوقى – الشريك والخصم السياسى النزيه الوفى الذى يفتقده الواقع المصرى - ؛ فما يحققه الاستبداد فقط هو استقرار المستنقعات ، لأن السطح هادئ والأعماق زاخرة بالعفن ، على خلاف النظام الديمقراطى الحقيقى الذى يحقق استقرار البحر فالسطح مستقر أهوج تتابع عليه أمواج الاضطرابات والمظاهرات والنقاشات الصاخبة لكن الأعماق هادئة تذخر بدفق الحياة ، والعمق المصرى يغلى وينذر بالخطر ، ولم يعد الحل كالماضى بملء بطون السجون بالاسلاميين .
مالكم كأنهم يتسولون منكم أن يكونوا أعضاء فى ناديكم الوطنى ، مالكم ما هذا الاستعلاء والعجرفة والعناد ؟
أخطأ الاسلاميون فهل أنتم مبرأون وملائكة ؟ ألا تنصفون ؟ أتركوهم يعيشون فى أوطانهم يعملون وينتجون ويمارسون السياسة ويخطئون ويتعلمون ويصوبون .
كيف ننتظر منهم التطور سياسياً وهم من نقطة تفتيش الى نقطة تفتيش ومن حاجز الى حاجز ومن مطار الى مطار ومن زنزانة الى زنزانة ، ومن سجن الى سجن ومن قاض الى قاض ومن اتهام الى اتهام ومن شهيد الى شهيد ومن نضال الى نضال .
العبقرى تشيخوف فى سياق قصة " الفلاحون " يصف حال الفلاح الروسى التعسة أيام القيصرية : " كان الفلاح الروسى يقاسى من الجوع والجهل والمرض والفودكا " .
فلاحونا لا يشربون الخمور ، وقرانا ومدننا المسالمة تقاسى الجوع والجهل والمرض .. والظلم ، والروس هربوا الى النسيان بالفودكا ، ونحن بكامل وعينا واحساسنا نواجه كل ذلك وأكثر .