إلى الجميل سمير العمري
لاحظ الظل اضطراب صاحبته،كلما وجدت النافذة المقابلة لشرفتها مغلقة، عادت إلى غرفة نومها معتكرة المزاج، و صدرها يطلق زفرات حارة. لم يفهم الظل أول الأمر مغزاها. لكن عندما التقته بباب الجامعة، أحس الظل بقلبها يرفرف بسعادة بين جوانحها، و أطراف بنانها تنفث حرارة شديدة، و حمرة خدر جميلة غمرت حمرة الدم في وجنتيها الأسيلتين.
أدرك الظل أن صاحبتَه غارقة في الحب. سألها، و هو يعلق على شفتيه بسمة ماكرة:
- هل ما أنتِ فيه حب، أم انبهار بجماله؟
أجابت بارتباك:
- لست أدري يا ظلي الرائع، لم أجرب الحب من قبل، و لا أعرف ماهيته، لكنني أشعر أنني امرأة مغايرة تماما.
ربت الظل على كتفها، و قال:
- الحب هو الشيء و ضده: البسيط المركب... المعلوم المجهول ... القاتل المحيي ... المعز المذل....العاقل المجنون...
و أنت بعد الحب،لست كما كنت قبله، فالحب ميلاد جديد ستشعرين
بامتلاء بعد فراغ،
باكتمال بعد نقص،
بسعة بعد ضيق،
بانفتاح بعد كمون،
بإيثار بعد استئثار،
باضطراب بعد هدوء،
باحتراق بعد خمود.
اقتربت من ظلها، و سألته بغنج:
- ما رأيك فيه؟
أطرق الظل مفكرا ثم قال:
- كل العيون تتساوى نواظرها، و تتباين مناظرها... و حكم الحب يمتزج بمواد المحب*. فلا تسألي بعد اليوم أحدا عن رأيه في من تحبين، اسألي قلبك، و عقلك لاغير، فالحب دوح سامق جذوره في القلب،و فروعه في العقل.
تأمل الظل صاحبته، و هي تضفي على وجهها جمالا إضافيا من عدة زينتها. و قفت أمام المرآة. انبهرت بوسامتها،و صاحت:
- الجمال موعد مع السعادة.1
وقفت أمام ظلها تستعرض جمالها.و هي تردد
-إذا عشقني جبل تهافت. 2
تفحصها بنظرة باردة، و ألقى إليها بكلمات صدمتها:
- لا تضفي وسائل الزينة على المرأة سوى جمال مزعوم، و الجسد المتبرج لا يليق رسولا للحب.
أخذ الظل منديلا. دنا منها ، و شرع يمسح وجهها. و صاحبته ترزح تحت دهشة عميقة. انساقت إلى إرادة ظلها، و هي تستمع إلى كلامه باهتمام:
- وجهك الملائكي ، لا يحتاج إلى تزكية. و إبراز نفائس جسدك، لن يثير سوى الغرائز. اعلمي آنستي أن أول ما يشتبك من العشاق عند اللقاء العيون، فترتبط اللواحظ بالنظر، فإذا نظر إليك فانظري إليه لأن المحبوب يحتشم من صرف النظر عن المحب، و المحب ناظر إليه، و إذا تأملك،و ألفاك على طبيعتك، أحبك لذاتك لا لقناعك. تزول الأقنعة، و تبقى الحقيقة. و أول ما يتحدث منهما القلبان، فإذا ما التقيا تركا لهما وقتا كافيا ليتناجيا، و يحدثا بعضهما...فإن وقع الحديث فيهما موقعا حسنا، ارتبطا ارتباطا لا فكاك بعده. فتحدثي بقلبك قبل لسانك، و قال لي قيمة كل امرئ حديث قلبه.
انصاعت إلى تعليمات ظلها. غيرت ملابسها الكاشفة الشفيفة بسرعة. أمسكت بيده، وسحبته خلفها. اقترب موعد اللقاء. جذبها الظل بقوة، حتى توقفت عن المشي. طلب منها ألا تكون عجولة، في ثنايا العجلة توجد مواطن الخلل. وضع يديه على صدره ، و طلب منها أن تفعل مثله ، و تجهر بالدعاء، فدعاء المرأة و ذكر الطفل فيهما من الحرارة و البراءة ما يجعلهما مستجابين.و قال لي اذكرني كما يذكرني الطفل،و ادعني،كما تدعوني المرأة.
وضعت يديها على صدرها. دعت دعاء حارا، حتى توهج كفاها بنور لا مثيل له، تسلل عبر صدرها، فاغتسل به القلب. نظر الظل إلى صاحبته، و قال:
- الفؤاد مسكن الحبيب، فاجعليه أطهر مقام، لأعز مقيم.
انطلقت منشرحة، و فؤادها البكر يحث خطوها. اقتربت من مكان اللقاء. علا دفيف قلبها، و اشتد ارتباكها. التفتت نحو أستاذها الظل:
- عليه أن يبادر هو بالاعتراف بالحب، أنا المحبوبة،و هو المحب.
ضحك الظل، ضحكة مقتضبة، و خاطبها:
- الحب عاطفة غيرية، خلصت الإنسان من جحيم أناه، و لا يمكن للحب أن يكون أبدا من طرف واحد، و إلا كان أعرج. كلاكما محب،و كلاكما محبوب، و أسبقكما إلى الاعتراف بلواعج القلب، أعلمكما بماهية الحب.
عبت نفسا عميقا، و همت بدخول المطعم. أوقفها الظل. نصيحة أخيرة:
- لا تكثري من الكلام، فالصمت في محله أبلغ من الحديث ، و بين الصمت و النطق مقام السمع...زني كلامه...و ضني بكلامك إلا للضرورة... لا تتعقبي زلاته، و لا تنظري إلى نقائصه، قد يكون ذلك من ارتباكه، فينفر منه فؤادك بغير حق.و قال لي أسرع شيء عقوبة القلب.فإذا عاقب القلب، انقطع حبل الوصل. و الحب لا يحدث مرتين، كما" لا يمكن أن نسبح في النهر مرتين".
انتهى اللقاء، و عادت إلى البيت فراشة جذلى تحلق في عالم من السعادة. عانقت ظلها، و صاحت:
- عندما اعترف لي بحبه، أحسست أن جسدي توقف عن الحياة، ماعدا قلبي ظل يدق بقوة، أيمكن أن يحدث ذلك؟
- الحب إذا صدق كان إكسيرا يحول دون موت قلوب العشاق، إذا ماتت أجسامهم.و قال لي يموت جسم العاشق، و لا يموت قلبه.3
باتت تنتظر اللقاء القادم على أحر من الجمر. اشتاقت إلى طلعته البهية، و حديثه العذب. أخذت هاتفها ركبت رقمه. جاءها صوته كخرير مياه صافية، تتدفق في أذنها شلال سعادة لا توصف. راقبها الظل طلية الحديث. لاحظ انفعالاتها، و إشراق وجهها. ما إن انتهت المكالمة حتى تهالكت على أريكة سكرى بنبيذ كلماته. نظرت إلى ظلها بعينين تفيضان فرحا، و قالت:
- ليتني أعرف من أي نهر عذب يكرع كلامه الساحر، لحديثه أنامل رقيقة تداعب أنوثتي. لو طلبني للقائه الآن، لطرت إليه بأجنحة الجنون.
اقترب منها الظل، و نطق بكلمات كبحت حماستها:
- يجب أن تكوني كصفصافة رزينة، لا تهزها رياح الثناء، و لا تغلبها تباريح الشوق، كي يستوي الحب على نار مهيلة، و كي لا تزيغين به عن جادة الصواب.
- هل ترتاب في شيء...
- وقانا الله وساوس الشك، و لكن مملكة الحب ليس لها حراس يقفون على حدودها، لذلك يدخلها المدعون و الصادقون، و العاشق الصادق مزن عذب يسقي شجرة الحب، و لا يأكل من ثمارها إلا بالشرع.
حل موعد اللقاء الثاني. لم ينبس الظل بكلمة واحدة. ترك لها حرية التصرف. جلس إلى جانبها،و هي تحدث حبيب قلبها. نُضْج كلامها أشعر الظل بالفخر.
عادت إلى البيت، وجدته ضيقا لا يسع فرحتها. وقفت أمام المرآة. كيانها بكامله يفيض سعادة. لقد طلب يدها للزواج.
يعرف الظل أن صاحبته لا تمتلك تجربة كافية في الحياة، و تجهل أنها مقبلة على حدث جلل، لا يكون إلا أحد أمرين: فردوسا أو جحيما. قبل موعد حفل الزفاف،بيوم واحد، و هي منهمكة في استعداداتها. دنا منها، و قال:
- لي معك حديث ، لك أن تنتقي منه ما ترينه مفيدا لك في حياتك الزوجية:
انظري إليه بعين الرضا، تتجلَّ لك محاسنه.
حمِّليه ما يطاق، قدر على ما لا يطاق.
احفظيه في حضوره، يحفظك في غيبتك.
الملل صدأ الحب، فليكن لديك ما يكفي من الحطب لإبقاء نار العشق مشتعلة، حتى ينجلي الصدأ.
نظرت إلى ظلها بعطف ، و حنو، بدا لها غاية في الجمال. اقتربت منه و قالت:
- أطعتك في كل ما أمرت. فأطعني في أمر جال بخاطري منذ مدة. أنت و ظل العريس تشكلان زوجا رائعا.لماذا لا نجعل الفرحة فرحتين...
أدرك الظل الغاية من كلامها. قاطعها مبتسما ، و قال:
- يتبع الظل صاحبه في حله و ترحاله ، و يستجيب لمصدره في امتداده، و انقباضه، و يطيع الله وحده في جهره، و سره. جميع الظلال من ذوي الأفئدة الفارغة من كل حب، إلا من حب الله ، و قلوبهم موقوفة للخالق. و قال لي الجزء الذي يعرفني لا يصلح على غيري.
هوامش
* الون الأحمر كله كلام النفري.
1 - كلام لبسكال.
2 – نهج البلاغة لعلي بن أبي طالب
3 – كلام للنفري بتصرف. يقول هو قلب الواقف و قد غيرتها إلى قلب العاشق