الهجر الجميل .. !
قال الله تعالى (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (المزمل:10)
هذا الأمر الرباني نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ..!
في بدايات الدعوة والبلاغ. . !
الذي يدعو للتعجب في هذا الأمر أنه لم يكن أمراً بعد ما تحققت الدعوة في الناس ، وصار لها أعواناً وحملة يبلغونها ..!
إنما كان أمراً في وقت الدعوة أشد ما تحتاج أن تنتشر وتضرب أوتارها في الواقع الجاهلي
فهل يعني هذا الأمر من الله جل وتعالى لإمام الدعوة وقائدها النبي الكريم محمد بن عبد الله عليه صلاة ربي وسلامه أن يوقف دعوته وينفرد بخاصة نفسه ومن معه ، ويهجر الكافرين فلا يدعوهم في هذا الظرف وهذا الحال ؟!!
لعل القارئ بادئ ذي بدئ يحسب الأمر كذلك . !
ومن هنا لا نستغرب من أن بعض المفسرين قد جعل الآية منسوخة بآية القتال .!
وحين يقف القارئ المتأمل عند هذه الآية ( واهجرهم هجرا جميلا ) يجد أن هذا الأمر قد جسّد للداعية وبيّن له الموقف الرباني من قضيتين :
الأولى : موقف الداعية من المجتمع الذي يعيش فيه .
الثانية : موقف الداعي من المدعوين بشتى أصنافهم .
وحين أقف مع هذه الآية الوقفات التاليات فإني أقف معها منطلقا من هاتين القضيتين .
الوقفة الأولى : حتى يكون الهجر جميلا .
سئل شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى عن الهجر الجميل ؟!
فقال : ... الهجر الجميل : هجر بلا أذى .!
والإمام ابن سعدي رحمه الله له وقفة لطيفة عند هذه الاية حيث قال : الهجر الجميل : هو الهجر حيث اقتضت المصلحة . الهجر الذي لا أذية فيه ، بل يعاملهم بالهجر والإعراض عن أقوالهم التي تؤذيه ، وأمره بجدالهم بالتي هي أحسن ..
وهنا أفادنا كلام الإمامين ثلاثة معاني مهمة في الهجر الجميل :
المعنى الأول : أن الهجر يكون حيث اقتضت المصلحة .
المعنى الثاني : أن الهجر الجميل هجر لا أذى فيه .
المعنى الثالث : أن من الهجر الجميل هجر الإعراض عن أقوال وأفعال المكذبين مع الاستمرار في دعوتهم .
ثلاثة معاني مهمة ينبغي على الداعية إلى الله أن يراعي هذه الوصاف حتى يكون الهجر جميلاً .
هذه المعاني جعلت من هذا التوجيه سموّاً في المواجهة مع المجتمع أو مع المدعوين .
فهو هجر جميل لا لجرح العواطف والمشاعر والتلاعب بها .
هجر جميل لا تخفف فيه من أعباء الدعوة وتبعاتها ومشاقها ..
هجر جميل لا يقطع بالداعية المجاهد عن العمل في أمل ..!
إنه هجر للصناعة لا للإضاعة ..!
إنك تجد من البعض من يهجر أخاه أو يهجر مجتمعه هجراً بشتم وخصومة .
هجراً الأحقاد والأضغان ..
هجراً على درهم أو خميلة أو خميصة .، أو منصب أو شهرة !
والله تعالى يريد من الدعاة وحملة المبادئ أن تسمو مواقفهم لتتعدى ذواتهم إلى مواقف حاسمة في سبيل الدعوة ومن أجلها . ويلبسون هذا الهجر لباس التقوى - زعموا - !
حتى إذا قيل له :ما بالك تهجر فلانا وفلاناً ...؟!
قال : ذاك رجل يأتي المنكرات ، أو فيه كيت وكيت ...!
وهو ما دعاه للهجر إلا خصومة أو حكومة أو تعرض للذات .!
يا سبحان الله ..
ترى كم لاقى نبي الهدى ورحمة الله المهداة محمد بن عبد الله من الأذى والنكران حتى تنزلت عليه هذه الآية !!
وحين تنزّلت تُراه ترك دعوتهم ونصحهم ..؟!