الــديـــــــــــــار
أمرُّ على الديار ِ ديـارِ ليلى === ====== *** أقبلُ ذا الجـدارَ وذا الجدارا
وما حبُّ الديارِ شغفنَ قلب *** ولكن حبُّ من سكنَ الديارا
هذانِ البيتانِ كانا نشيداً يترددُ على لسانِ قيسٍ لا يفارقانِ شفتيهِ حتى وهو نائمٌ ، فقد كانَ حبُّ ليلى قد أخذَ بلبِّه وسيطرَ على كلِّ أحاسيسهِ ، وامتلكَ كلَّ جوارحهِ ؛ فغدا هائماً بها تتراءى له صورتها في كلِّ حين ، أين َ ما ذهبَ .
لقد انطبعتْ في ذاكرتهِ وصارتْ جزءاً من عقلهِ الذي لم يعدْ يفكرُ إلا بها .
كانَ قيسٌ دائمَ البكاء ِ ، ملتهبُ الحنيِن ، كلما ذكرتْ ليلى فاضتْ أنهارُ عينيهِ لتروي بستانَ وجنتيه الذي غدا شاحباً لملوحةِ تلكَ المياهِ .
إنهُ الحبُّ الذي لامسَ شغافَ قلبهِ ، وأسرَ بجبروتهِ كيانَ عقلهِ ، فجعلهُ مجنوناً يجوبُ الطرقاتَ وهو ينشدُ أجملَ أشعاره ِ في حبِّ ليلى ، فقد كانَ لا يفتأُ يتنقلُ في هذا المكان الذي سكنته ليلى علَّه يرى شخصها ، أو يسمعَ صوتها ، أو حتى يسمع ذكرها ممن يجاورونها ، لكنَّ الصمتَ كان هو المسيطرُ على هذا المكان ، فكيفَ يسمعُ صوتَ من في القبور ؟ وكيفَ يرى شخصَ ليلى وقد واراهُ الترابَ منذُ أكثرَ من شهرين ؟ لكنه كانَ يعللُ النفسَ كي تصبَر على ما أصابها .
فمنذُ استشهادِ ليلى في المجزرةِ الرهيبةِ التي ارتكبها النصيرية في حمص وهو لا يغادرُ المقبرةَ التي دفنتْ فيها ، فقد أصبحتْ ديارَ الحبيبةِ ومسكنها .
بقيَ قيسٌ على هذه الحالةِ عدةَ أشهرٍ وهو مقيمٌ في المقـبرةِ يبكي ليلى الـتي كانتْ أغلى عليـه من روحه ، لكنهُ كانَ يشعرُ بالغيضِ والحنقِ على من قتلوا حبيبته ، فلا بدَّ له من الانتقامِ لروحها الطاهرِ ولو كلفهُ ذلكَ حياتهُ .
أصبحَ همهُ الشاغلُ الآن هو الانتقامُ ، فليسَ ثمةَ شيءٌ يضحي به من أجلِ ليلى أغلى من روحهِ ، الذي غدا معذباً بعدَ رحيلها .
قررَ أن يلتحقَ بالمجاهدين ، فهم سبيلهُ إلى تحقيقِ ما يصبو إليه ، ولكن هل الانتقامُ لليلى هو الذي دفعهُ إلى هذا الأمر ؟ فكرَ مليَّاً في هذا الموضوعِ، فهو ذاهبٌ إلى طريق ٍ لا رجعةَ منها ، فهل حبُّ ليلى هو الدافعُ الوحيدُ لخوضِ هذه التجربة ؟
تراءتْ له صورٌ كثيرةٌ كانتْ في مخيلته ، فليستْ ليلى وحدها التي استشهدتْ في هذه المجزرةِ ، أو غيرها ، فهنالكَ كثيرٌ ممن ماتوا دونَ ذنبٍ اقترفوه سوى أنهم مسلمون ( أهل سنة وجماعة ).
حسمَ الأمرَ مباشرةً ، فالقضيةُ أكبُر من ليلى وديارها ، إنها قضيةُ شعبٍ وأمَّة ٍ ولدَ فيها ، فعليه أن يضحي من أجلها لا من أجلِ ليلى ، فحيَن يقاسُ حبُّ الوطنِ بحبِ الحبيبةِ يتلاشى هذا الأخيرُ ليغدو جزءاً من الحبِّ الكبير ِ ، فهو الجذوةُ التي ما تلبثُ أن تشتعلَ لتنيرَ الكونَ .
أخذَ سلاحه ُ ، الذي كانَ مرمياً في دارهِ منذ وفاةِ والدهِ ؛ والذي أوصاهُ به وسألهُ أن يصونهُ كما يصونُ أهلهُ ، لكنَّ حبه لليلى كانَ قد شغلهُ عنه وعن الوصيةِ ، وانطلقَ ليلتحقَ بالمجاهدين .
كانَ متشوقاً جداً للقتالِ ، فمازالَ طيفُ ليلى يغذي فيه روحَ العزيمةِ والإصرارِ على تطهير ِ أرضهِ من رجسِ هؤلاءِ الأوغاد ِ .
وما هي إلا أيامٌ حتى جاءتهُ البشارةُ التي انتظرها طويلاً ، فقد تمَّ اختيارهُ للمشاركةِ في عمليةٍ استشهاديةٍ ضدَّ المجرمين .
كانَ في غايةِ السرورِ ، فقد حانَ وقت ُ الانتقامِ لليلى ومن جاورها من الذينَ ماتوا دون ذنبٍ سوى أنهم مسلمون .
مرَّ على قبرها مودعاً حياته ، ومبشراً إيَّاها بقدومهِ الذي لم يعدْ ببعيد .
أسمعها آخرَ قصائده ِ بها ثم وعدها بأنهُ سيبيتُ ليلتهُ بالقرب منها ، فقد فرغَ صبرهُ وآنَ للمحزونِ أن يلتقي بمنْ يهوى .
بعدَ ساعةٍ سُمعَ دويُّ انفجارٍ عنيف ٍ في إحدى الحواجز المجرمة كانَ ضحيتهُ عشراتُ النصيرية الأوغاد ... وجثمانُ قيسٍ الذي وجدوهُ على هيئتهِ البهيَّةِ ، وهو يرسمُ ابتسامةً عريضةً على شفتيهِ ، وفي يدهِ قصاصةٌ من الورقِ كانت النيرانُ قد التهمتها ، ولم يبقَ منها غير جزءٍ صغيرٍ مكتوبٌ عليه :
إذا ما مُتُّ في يوم خذوني *** إلى ليلى أجاورها الديارا