تكمن أهمية طرح الشيخ عبود الزمر الأخير أنه يتناغم مع خبرة الجماعة الاسلامية وقيادييها التاريخيين الذين أنجزوا المصالحة مع الدولة المصرية كالشيخ كرم زهدى والشيخ الدكتور ناجح ابراهيم ، ليضع القيادات الجديدة – التى انضم اليها الشيخ عبود كالشيخ عصام دربالة والشيخ أسامة حافظ وعبد الغنى وعبد الماجد .. الخ – فى مأزق فكرى وتنظيمى لن يخرجوا منه بسهولة بعد التدهور الذى قادوا الجماعة اليه مؤخراً ، بالرغم من أنها كانت مؤهلة لما هو أرقى أداءاً وخطاباً وحضوراً جماهيرياً بعد أن وضعتها القيادة السابقة على بداية الطريق الصحيح .
مسألة الديات طرحتها القيادة السابقة وعرض الشيخان ناجح وكرم بعد الاعتذار والاعتراف بالخطأ فى قرار الصدام فى التسعينات اعطاء ديات لعائلات الضحايا من الشرطة والأقباط والسياح من عوائد بيع كتب المبادرة .
القضية الأساسية التى أعلم يقيناً أنها وراء مواقف الشيخ عبود الخارجة عن سياق الجماعة الحالى هى قضية حضور الحركة الاسلامية – بجميع فصائلها فى هذه المرة - ومستقبلها فى المشهد السياسى والواقع المصرى ، وهى ذات القضية التى شكلت توجهات صناع قرار مبادرة وقف العنف فقد تيقنوا أن شباب الحركة الاسلامية يُراد لهم الاقصاء وألا يكون لهم دور وأن يختفوا تماماً من المشهد ، بحيلة الشيطنة واحداث الفتنة بين الاسلاميين والدولة وتصويرهم كارهابيين مارقين ، وهناك تيارات معروفة بكراهيتها للحركة الاسلامية توقع العداوة بين الاسلاميين والسلطة والمؤسسات والشعب ، ومن هنا انطلق المشايخ فى عمل دؤوب يواجهون التحديات والعراقيل والأسافين منذ الثمانينات ووساطة الشيخ الشعراوى الى أن تمت المصالحة فى أواخر التسعينات .
يدرك الشيخ عبود ذلك جيداً ، وما بين الاقصاء التام والتضييق على كل فصائل الحركة وبين سيطرة الحركة على مقاليد السلطة منطقة وسط من الحضور المتوازن والعمل المتدرج المرحلى وصولاً لاستيعاب الوطن واحتواء المجتمع للحركة ، لا – كما تخيل البعض – العكس من خلال التغيير الفوقى والقفزات الجماعية غير المحسوبة – أتمنى اعادة قراءة مقالى هنا بالمصريون قبل عام بعنوان " من يحمى الحركة الاسلامية من نفسها ؟ " .
قرأت للباحث الصديق ماهر فرغلى تعقيباً على موقف الشيخ عبود الزمر الأخير ، وذكر فى ثناياه عبارة " الشيخ عبود ألقى بحجر فى ماء الجماعة الاسلامية الراكد " ، وكان الماء قد تحرك وتدفق بعد المبادرة ليعود الاسلاميون الى أحضان مجتمعاتهم وأوطانهم بعد عزلة وفتنة مدمرة ، وتذكرت على الفور ما كان يقوله الشيخان المناضلان الفاضلان كرم زهدى وناجح ابراهيم عندما وصلت مساعى المصالحة فى بعض المراحل – بسبب المتربصين لها – لطريق مسدود ؛ فقرر القادة الكبار والمشايخ الصادقون أن يلقوا بأنفسهم فى الماء الراكد لتحريكه – بذات العبارة ولنفس الغاية – فالأزمة خانقة والمتربصون يعرقلون والعناد سيد الموقف ودماء أبناء الوطن الواحد تنزف والبلاد تسير الى المجهول ، فلم يكن بد من مواقف شجاعة لرجال كبار يوقفون هذا التدهور وهذا النزيف .
هى خبرة الجماعة الاسلامية القديمة فى التعامل مع مثل هذه الأزمات الضخمة وهنا ينوب الشيخ عبود الزمر بنفسه عن قيادات كبيرة أمثال الشيخ ناجح والشيخ كرم بسبب القصف الممنهج ضدهما داخل الجماعة الاسلامية للأسف الشديد والذى صنع حاجزاً سميكاً حال دون سماع أبناء الجماعة لنصائحهما وقراءة رؤاهما بتمعن وتوقير وتقدير لتاريخهما ومكانتهما .
لم يعد هناك مجال لاملاء شروط كالسابق فالتحرك الآن نحو المصالحة يختلف تماماً عن التحرك قبل عام مع فقدان أوراق كبيرة للمساومة كاحالة الدكتور مرسى للمحاكمة مع القيادات الاسلامية الكبيرة ، فى مقابل ترسيخ السلطة الجديدة أقدامها فى المشهد السياسى باستحقاقات انتخابية تكتمل قريباً بالاستحقاق البرلمانى ، ولذلك تتوارى الشروط والمطالب خلف اعلان الاعتراف بالأمر الواقع بتفاهمات لاحقة تمس المصلحة العامة والمصيرية للحركة الاسلامية بعمومها وأبنائها ، دون التأثر برؤية الاخوان للأزمة ، حيث ينظرون اليها ويتعاملون معها من منطلقات ومعايير وخلفيات أخرى ، ولذلك يتضاعف الوعى اليوم بادراك أهمية فض الاشتباك مع الاخوان ، ليس تخلياً انما نقلاً للخبرة التى غابت عن شبابهم ، بسبب بعد المسافة التى تفصل عن حقبة الستينات وكذلك الامتناع المتعمد عن الخوض فى مراجعات حقيقية .
تبقى الخبرة الأخيرة المهمة متعلقة بالخطط التكتيكية والمواقف الاستراتيجية ، وهذا ما ينبغى على الشيخ عبود تفصيله ؛ وهذا سؤال مباشر : فهل ما طرحه الشيخ تحرك تكتيكى لالتقاط الأنفاس وامتصاص الضربات ، أم أنه رؤية استراتيجية تنتمى لخبرة الشيخين كرم وناجح لصلح دائم ولعودة مدروسة ومنضبطة وعهود لتكامل وتعاون راشد بين الحركة الاسلامية والدولة للنهضة والبناء والوحدة ؟
ننتظر مقالات الشيخ عبود القادمة ، فالقضية تحتاج الى ايضاحات وتفصيلات لقطع الشك باليقين .
وللحديث بقية ان شاء الله .