التصريع والتقفيةأساتذتي الكرام
-رأيي الخاص-
إذا أردتم رأيَ العَروض.. فقد كفتنيه كتبه القديمة والحديثة، وما اقترفته من خلاف حولهما، بما لن تتفق عليه الآراء جميعها، حتى وإن اتفقنا هنا عليه اليوم.. ناهيك عن كونه مما لا طائل وراءه.
أما العبد الفقير فيرى أن مصطلح (التقفية)، وهو مشتق من (القافية)، يشير إلى وحدة القافية التي تقوم عليها أبيات القصيدة جمعاء، سواء في الضروب -وهو الأصل-، أم في الأعاريض..
فإذا قُفِّيَ شطرا البيت الواحد من القصيدة، وغالباً ما يكون ذلك في المطالع، سُمِّيَت هذه (التقفيةُ) (تصريعاً)، وسمّي ذلك البيتُ (مصرَّعاً) تشبيهاً له بمصراعَيْ الباب، أي دفّتيه اليمنى واليسرى، فكأنه باب القصيدة، يلج منه الشاعر والقارئ إلى فضاء القصيدة الأوسع.. فإذا لم يُصرّع الشاعر قصيدته، كان كالمُتَسَوِّر الداخل من غير باب، كما قال ابن رشيق في عمدته.
فالتصريع تقفية، يختصّ بتقفية شطري البيت الواحد، سواء في مطلع القصيدة أم في غيره. فكلُّ بيتٍ قُفِّيَ شطراه هو بيتٌ مُصرَّع. وكل بيت مُصرّع هو بيتٌ مقفّى.
ومن الطبيعي لكي تتحد قافيتا الشطرين أنْ تُوافق العَروضُ الضرْبَ في قافيته أولاً، وفي وزنه ثانياً، فإذا كان وزن الضرب مختلفاً عن وزن العروض، كما هو الحال في بعض البحور، اضطرّت التقفيةُ الشاعرَ عند التصريع إلى المساواة بينهما، فتنقصُ بنقصه عنها، وتزيد بزيادته عليها، وإذا كانت العروض مساويةً للضرب في الوزن، كما هو الحال في بعض البحور، لم يكن الشاعر بحاجة إلى تغيير الوزن. ولذلك فلا يحتاج تعريف التصريع إلى اشتراط ذلك، فهو شرط من الفضول.
ويوهم التعريف العروضي للتصريع اشتراط المطابقة المطلقة بين العروض والضرب. وواقع الشعر لا يلتزم المطابقة التامة في الوزن، لأنّ ما يجوز في الضرب من الزحاف يجوز في العروض المصرَّعة، حتى إن وقع الزحافُ في أحدهما دون الآخر.
فإذا لم يقع هذا الاختلاف في بحور كالطويل والبسيط والوافر والهزج والمنسرح والمضارع والمقتضب والمتقارب، لسلامة ضروبها من الزحاف... فهو واقع في الكامل والرجز والرمل والمديد والخفيف والمجتث والمتدارك لجواز الزحاف في ضروبها المقابلة...
فقول شوقي من الكامل:
في المَوتِ ما أَعيا وَفي أَسْبابِهِ = كُلُّ امْرِئٍ رَهْنٌ بِطَيِّ كِتابِهِ
تصريع، جاءت عروضه على (مستفعلن)، وضربه على (متَفاعلن).
وقوله من الكامل أيضاً:
عادَت أَغاني العُرْسِ رَجْعَ نُواحِ = وَنُعِيتِ بَينَ مَعالِمِ الأَفْراحِتصريع، جاءت عروضه على (فعِلاتن)، وضربه على (مفعولن).
وعكسه تصريع أيضاً، كقوله:
بِأَبي وَروحي الناعِماتِ الغِيدا = الباسِماتِ عَنِ اليَتيمِ نَضِيدَاوقول ابن الأبار من الرجز:
لَم يَبْقَ رَسْمٌ للأدَبْ = أوْدَى ضَياعاً وَذَهَبْتصريع، جاءت عروضه على (مستفعلن)، وضربه على (مفتَعِلن).
وقوله كذلك:
أشدو بها وَسْطَ النّدِيِّ الحاشِدِ = وَضّاحَةً مِن غُرَرِ المَراشِدِتصريع، جاءت عروضه على (مستفعلن)، وضربه على (متَفْعِلن).
وقول ابن الرومي من الرمل:
طَرَقَتْ أسماءُ والرَّكْبُ هُجودُ = والمطايا جُنَّحُ الأزْوارِ قُودُتصريع، جاءت عروضه على (فعِلاتن)، وضربه على (فاعلاتن)
وقول إبراهيم ناجي من الرمل أيضاً:
يا فؤادي رَحِمَ اللهُ الهوَى=كانَ صَرْحاً مِنْ خَيالٍ فَهَوَى
تصريع، جاءت عروضه على (فاعلن) وضربه على (فعِلن).
وقول إبراهيم الصولي من المديد:
ما الَّذي أَفْعَلُ أَمْ ما أَقولُ = حَدَثٌ لَوْ تَعلَمينَ جَليلُتصريع أيضاً، جاءت عروضه على (فاعِلاتن)، وضربه على (فعِلاتن).
وقول الحارث بن حلزة من الخفيف:
آذَنَتْنا بِبَيْنِها أسْماءُ = رُبَّ ثاوٍ يملُّ منه الثَّواءُبيتٌ مصرَّع، جاء ضربه على الأصل: (فاعلاتن)، وجاءت عروضه مزاحفةً على: (فالاتن)، وهو زحافٌ جائزٌ في الضرب، لا يُغيِّر في قافية القصيدة شيئاً.
يقول ابن حلّزة في ذات القصيدة:
وَبِعَينَيكَ أَوقَدَتْ هِندٌ النا=رَ أَخيراً تُلْوِي بِها العَلْياءُويقول:
أَيُّها الناطِقُ المُرَقِّشُ عَنّا = عِندَ عَمْرَوٍ وَهَل لِذاكَ بَقَاءُفلم تختلف القافية، على الرغم من اختلاف الضروب بين (فاعلاتن وفعِلاتن وفالاتن).
ومثل ذلك كثيرٌ لا يُحصى.
ولذلك كان من الغريب أن يُفرّق العروضيون بين التقفية والتصريع، وهما شيءٌ واحد في الأصل.
فكلّ بيتٍ (مصرّع) هو بيتٌ (مقفَّى) الشطرين، يجوز فيه ما يجوز في القافية من الزحاف.
والله تعالى أعلم
الرياض 24 شعبان/ 1435هـ