الصمت ملاذ الظل إلى حين
-1 -
ظلك لا يشبهك شبها تاما . تأمله، تجد علامات الاختلاف بينكما ، تطغى على مظاهر الائتلاف. و إن كان كائنا معتما ، فهو في جوهره ضوء. من خلق من رحم الضوء ، لن يكون إلا ضوء ، و إلا فهو ظلمة ، وليس ظلا*. وبجوهره يهتدي ، فيتسع أفق بصره ، و تنفذ بصيرته إلى ما وراء الحجب. فلا تغضب ، و لا تعجب ، إن خالف طبعه طبعك ، و فيما كنت تنتظر منه خذلك.
-2-
دخلت نهاد البيت يرافقها ظلها. كانت مرحة ، و شهيتها مفتوحة لتلاوة القرآن.أخذت مصحفا،و شرعت ترتل آياته ترتيلا. يهز النفس، و يحرك الدمع في المآقي. جلس. قبالتها ظلها يغطي رأسه ، . و يستمع بخشوع. يحس أن أعماقه تتطهر، و بصيرته تهتدي بنور القرآن، و هديه.
دقت جارتهما الباب، و دلفت إلى قلب البيت شاهرة بسمتها المعهودة. خاطبت نهاد:
- لا أستطيع النوم، دون أن أراك. تذكرينني بابنتي، تشبهينها إلى حد التطابق. ما أخذته الموت منى، منحني الله إياه في هذه العمارة المباركة.
كان الظل يتميز من الغيظ. يلقي نحوها نظرات شزراء، مليئة بالكراهية. قرر أن يفعل شيئا ما، ليعبر عن امتعاضه من هذه الجارة الغريبة.اغتنم الفرصة، حين أرادت نهاد أن تقدم لها الشاي كالعادة. دلق الظل عليها كأس الشاي الساخن، حتى احترق بعض من وجهها، و جرى نحو المطبخ. تبعته صاحبتة غاضبة، و هي تردد:
- حرقت وجهها أيها الظل الطائش، لقد اقترفت يداك زلة لا تغتفر.
طأطأ الظل رأسه، و استعصم بالصمت. الصمت ملاذه، إلى حين ...
في الصباح، نسيت غضبها، و سامحت ظلها. طلبت منه مساعدتها في الاستعداد لاستقبال ضيف عزيز.
دخل الرجل، و فغمة عطر قوية تسبقه. قبل أن يلقي التحية، استخرج قارورة مسك فاخرة، و صب نصفها على لحيته. سلم، و ألقى بجثته المتينة على السرير. جلست نهاد بجانبه، في كامل زينتها. ما أن شرع في الحديث، حتى انقبض قلب الظل من كلامه. لم يتمالك نفسه ،مد يده، وأمسك بلحيته، لم يتركها إلا وهو يقبض على حزمة كبيرة من الشعر. سحبته صاحبته نحو غرفة النوم، و صاحت في وجهه:
- لقد أتيت فعلا نكرا، و نتفت لحية رجل صالح.لن أفوت لك فعلتك هذه المرة.
عنفته بشدة، و توعدته بعقاب قاس. طأطأ الظل رأسه مستعصما بالصمت. الصمت ملاذه، إلى حين.
لاحظت نهاد حزن ظلها العميق، فطلبت منه أن يرافقها للتسوق. عند مدخل السوق، رٍأى الظل جارهما القديم.لم يلتق به منذ أن غادر العمارة، لكنه لم ينس وجهه. لوح له الظل بيديه كلتيهما. جرى نحوه، و صافحه بحرارة بالغة. نادته صاحبته، و نهرته بقوة، و أمرته أن يتبعها.أخذت تزبد، و ترغد:
- كيف سمحت لنفسك أن تصافح ذلك العربيد، الذي لا يصحو من سكره. كلما نصحه الناس أجابهم هازئا (اليوم خمر،و غدا خمر). أزعج جيرانه ليلا، و تحرش بنسائهم نهارا. ما أراك إلا ظلا غريب الأطوار. تبجل الأشرار، و تسيء للأخيار.
-3-
ابتسم الظل، و ألح على العودة فورا إلى البيت. في البهو، جلس إلى جانب صاحبته، و قال:
- أما جارتك الحيزبون ، فلم يقع عليها قط رجل بالحلال تاجرت بجسدها في شبابها ، و في شيخوختها صارت وسيطة بين حرائر المدينة، و بعض أغنيائها. تلك مهنتها، منها تقتات، و تكتسي. لم تكن لها بنت قط ، هي حيلتها للنفاذ إلى قلبك.ما دخلت عليك يوما، إلا في موكب من الشياطين يحرضونها على الإيقاع بك في شباك الخطيئة. حُبست أكثر من مرة. تعلن في السجن توبتها. تتخذ لها حجابا ، و تؤدي الشعائر الدينية في وقتها . ما أن تغادر المعتقل ، حتى تعود إلى عادتها.
تربي في البيت زوجا من القطط ، و تقضي أوقات فراغها،و هي تشجع القط الذكر على اعتلاء الأنثى.
تلك هي سيرة جارتك الشمطاء. أما عن خطيبك المزعوم، فهو صنو إبليس. يسدل لحية زائفة ، و صلاته مجرد رياء ، تنتهي دائما بصلاة السهو ، و مع الجماعة بصلاة الفائت.
قدوته مسيلمة الكذاب. لذلك يستعمل أصنافا ثمينة من المسك. للتأثير على ضحاياه. تزوج من قبل امرأة مدعية مثله. خلع على نفسه لقب مسيلمة، و سماها سجاح. جعل لها صداقا غريبا. أعفاها من صلاة المغرب، والعشاء شتاء، و العصر، و الظهر صيفا.
يغالي في إبراز ورعه.و في بعض المواقف يسعى المرء إلى إبراز ما ينقصه. لكن الدين لا يصلح قناعا، ما وضعه شخص إلا و افتضح أمره بسرعة.
أما عن جارنا، فقد عاش صباه في كنف زوجة أبيه. فسامته سوء العذاب، و جرعته المرارة. هرب من البيت صغيرا. لم ينج بالكامل من مزالق الشارع ، فابتلي بالخمر ، و المخدرات. لكنه استطاع أن يتابع دراسته بجهوده الخاصة
بعد أن دخل سلك الوظيفة، و رغم إدمانه، كان متفانيا في عمله، فترقى بسرعة البرق إلى منصب مدير.
يوم مات والده، عاد إلى البيت، و عامل زوجة أبيه بالحسنى. تبنى أربعة أرامل في الحي، و صرف عليهن من حر ماله.
دخل يوما على زوجة أبيه، فوجدها تنظر إلى الكعبة على التلفاز، و تبكي. أرسلها إلى الحج على نفقته. في آخر يوم من حجها، زارها الرسول الأعظم في منامها، و سألها عن ربيبها باسمه . طلب منها أن تبلغه سلامه.لما عادت من الحج أخبرته بقصة الرسول الكريم. ترقرقت عيناه بالدموع. خر ساجدا. هجر الخمر، و لازم المسجد. تزوج امرأة صالحة، تعينه على فعل الخير.
لقد أحطتك خبرا بما لم تستطيعي عنه صبرا.،و قد فعلته عن علم وبصيرة.
ترك الظل صاحبته غارقة في الذهول، و احتجب عن الأبصار.