بريل
لم تكن كفيفة، حين مررت بباطن أصابعها على كتابٍ، كُتِبَ بطريقة " بريل " ..!
خفيةً من وحيدها، خيفةً من القادم المحتوم، توارت مكلومةً خلف سريرها، وتقرفصت، وكتمت أنينها، ثم رفعت إلى السماء رأسها، وابتهلت، ثم أسدلت كفيها على وجهها، وأمّنت .
.
.
قال الطبيب :
( يطلق على هذا المرض سارق البصر نظرا الى ان المرض لا تكون له اعراض واضحه في بداياته ويؤدي فقدان البصر بالتدريج الى فقدان النظر بشكل دائم في حال غياب العلاج. كما يعتبر هذا المرض ثاني اكثر الامراض المسببة للعمى على مستوى العالم. ) *
مادت الأرض من تحتها، وتمالكت في صعوبةٍ نفسها، وشعرت للحظاتٍ بأن جدران العيادة قد أُطبِقَت، فأوصى في تعاطفٍ ممرضته، بأن ترافقها حتى تستقل سيارة أجرة، وفعلت .
أسندت رأسها إلى ظهر المقعد، ونظرت من النافذة، وشعرت بثورة ذاكرتها تناشدها حفظ الأماكن ، المشفى، ثم الحديقة، ثم ذلك التقاطع، الذي أفقدها قبل سنةٍ زوجها، حبيبها، فأغمضت بشدةٍ عينيها، وفتحتهما في مرآة السائق، وتجاهلت نظراته لها .
أدارت المفتاح في مداره، وفتحت الباب في وهنٍ، فتلقفتها يد أمها في قلقٍ، ونظرت في صمتٍ إلى ولدها .
" عامر " في العاشرة من عمره ، طفل ذكي، وشهادات التفوق يزداد وزنها وحجمها، مع نهاية كل عامٍ دراسي، والشكاوى من شقاوته تزداد أيضاً .
رأته يقعد على كرسي، ويقلد مدرسته لجدته، ثم سكت فجأةً، فظنت - لوهلةٍ - بأنه أدرك معنى نظرتها إليه.
ضمته طويلاً إلى صدرها، ودعت الله أن ترى شهادة تخرجه سراً، ثم نظرت إلى عينيه، وجهرت بأمنيتها على مسمعه، فأنصت .. كأنها في جهرها تُحبط محاولة اليأس في اغتيال بصرها .
على مائدة العشاء، ساد الصمت إلاّ من قرع الملاعق بالصحون، وصرير السكاكين أحياناً، بيد أن الأطباق مكثت ممتلئةً إلاّ قليلا.
ابتسمت في وجهه، وقالت: هل ستكون هادئاً حين لا أراك ..؟!
أخفض رأسه إلى الأرض، وأومأ موافقاً على طلبها .
فقالت: إياك أن تفعل .. وضحكا معاً، بينما عجلت الجدة في مشيتها إلى المطبخ، تحمل في يدها طبقها، وفي قلبها حسرة، واستسلمت لعبرتها.
.
.
استجمعت قواها من خلف السرير، وتأكدت من ابتسامتها في غباش أمام مرآتها، وازداد الشعر الأبيض في غرتها شعرتين، واتخذت مكانها في صالة البيت، في انتظار نتيجته، تمسك في يدها ذلك الكتاب بشدةٍ، تقرر في نفسها أمراً.
قالت لصورة جدته المعلقة أمامها على الحائط، وقد توشحت بشريط أسود بعد العشاء الأخير ..!
( أكاد أقسم بأنه يعلم بمرضي، ولطالما حرك من أمامي الكراسي، وتظاهرنا بأننا لا نعلم )
طرقات الباب تشي بخبرٍ سعيد، مع غناء هذا المزعج وصرخاته المجنونة.
( شهادة التخرج يا أم عامر .. انظري )
خيم الظلام فجأةً، فلم تفزع، واستجمعت قواها حين وقف أمامها ..
أمسك بيدها في ثباتٍ وحنانٍ، ومرر أصابعها على الشهادة، وسحب الكتاب من يدها الأخرى، وقال لها :
( اقرأي .. من هنا .. ، ألم يقل القاص بأن " عامر " طفل ذكي ..! ، وافقت إدارة الجامعة على طلبي الإنساني، والاستثنائي )
.
.
.
قالت " أم عامر " كدت أن أراها ..
----------------------
* الدكتور أحمد محمد المنجومي