"مسك الليل".. لست أدري ما إذا كان هذا اسمه حقا، إن كان هذا اسمه العلمي على الأقل، كل ما كنت أعرفه هو أن أمي هكذا كانت تسميه: مسك الليل. ذلك أننا نسكن عند طرفي الشارع، نحن هنا، وعمتي هناك، وعلى سطح بيتها ثمة دالية عنب لا أحد يدري كيف نشأت، وزهرة مسك الليل التي ما عدت أشم عبقها بعدما ظل يصلنا إلى حيث نحن والريح تهب باتجاهنا. صغارا كنا، وكانت الرائحة تلك ذاكرة أخرى للصبا توازي ذاكرتي المحملة بأشياء كثيرة. في رمضان كان الشارع يتلاشى المارون به شيئا فشيئا بعيد العصر، يمضون إلى ديارهم متعبين من طول النهار، من العمل، محملين بمستلزمات البيت، شيئا فشيئا ينسحبون ليحتل الخواء مكانهم، فيم نحن الصبية – على غير صيام – ما يزال بنا من الطاقة ما يكفي لنواصل اللعب ركضا بين الهنا والهناك حتى أذان المغرب، لنقاسم الكبار إفطارهم سريعا قبل أن نعود للعب ثانية. مسك الليل كان يقوى في المساءات الحارة، ويخبو في أمسيات الشتاء البارد، فظل منزل عمتي – على بساطته – قصرا فخما نستنفذ الذرائع كلها حتى نزوره فقط كي نقتص من شذاه. كنت طفلا متوحدا أكره الاختلاط بالناس، وكانت المناسبات العائلية تشعرني بالكآبة والاغتراب. لم أكن أحب مرافقة أمي لزيارة المعارف، لا من الأهل ولا من الأصدقاء، ربما لأنه حيث يسكن هؤلاء وأولئك لم يغرس أحدهم مسك الليل، فكانت أماكن إقامتهم تشبه الورود الاصطناعية: كلاهما بلا رائحة. برغم هذا كان يعوضني عن مسك الليل ذاك العطر الغامض في ثيابها، في لحافها أكثر، ذلك أن الأمهات لكل واحدة منهن عطرها الخاص بها، فكانت أمي مميزة بالقرنفل والورد الأحمر اليابس، والأمر أن ثيابها تبقى في الدولاب مدفون بينها كيس القرنفل الذي يأتينا هدية أعياد وعطل من بعض الأقارب، وصرة الورد اليابس الذي تقتنيه من العطار بين وقت وآخر. عند عودتنا من الزيارات كان يكفي هبوب ريح خفيف على مدينتنا المشبعة بالتراب حتى تترمد عيناي وأنا أتلمس طريقي، بينما أمي التي تضع النقاب على وجهها تعرف جيدا كيف تتفادى حبيبات التراب الصغيرة والغبار الدقيق. "تعال اختبئ".. تقولها وهي تشدني من معصمي لتلصقني بها وتغطيني بإزارها، فكنت – وأنا في شبه ظلمة منه – يصلني صوت الريح والعربات والمارين، فيم أحاول أن أدوزن وقع خطواتي على خطاها. مرورا بمسارات مختلفة كل مرة، كان مسك الليل دليلي الوحيد على اقترابنا من البيت، أنا الذي لطالما تعودت تفادي الأسئلة.
في الثلث الأقصى من الشارع ثمة فرن شعبي قديم ظل يعمل بالحطب، وقت اختار أصحاب الأفران الأخرى تطويرها لتعمل بالكهرباء، وكنا – كما الكثير من الجيران وعائلات أخرى بعيدة – نأتي بصينيات الخبز حتى يطهى بالطريقة التقليدية، وبالرغم من حرص صاحب الفرن على عدم الخلط بين خبز هذا وخبز ذاك، إلا أن أمي كثيرا ما كانت تعيدني إليه على أساس أن الذي معي ليس خبزنا، لأجد غيري يشتكي من ذات الأمر، بل ولربما أعادتني لأن كل ما معي ليس لنا، لا الصينية ولا الخبز، فكان هو المتعود على الأمر يضحك قليلا باحثا عن ترضية سريعة لتسوية الأمر، أدناها أن يهبنا رغيف خبز أو رغيفين إذا كان الذي معي محترقا ولم نجد خبزنا، وأقصاها أن يتم استبدال الصينية عصرا أو في اليوم الموالي.
على كبر أدركت جيدا أن الروائح فصول الذاكرة الأربعة، وأنها توثيق للزمن الممتد. عرفت هذا وقد استحال على أمي أن تمسك ثلاثين سنة من معصمي لتخبئني تحت اللحاف، وقت صار علي أن أواجه حصى الحياة وأحجارها بعينين مفتوحتين. عرفته يوم انقطعت عادة الورد اليابس والقرنفل الذي صرت أشتريه أحيانا بعد أن ما عاد يأتينا على سبيل الهدايا، عرفته وقد مرت سنوات لم نذكر خلالها مسك الليل إلا على سبيل الذكريات وقد خبا أريجه نهائيا... عرفته وقد بقي الفرن الوحيد المحتفظ برائحة الحطب المشتعل والخبز المحروق شيئا ما كل هذا العمر... عرفت كل هذا وقد مرت بي أوقات لم أجرؤ خلالها على البوح لأحد بأنني فقدت قدرتي على الشم، غير متوقع أن الآخرين هم مثلي تماما، كلنا ما نزال قادرين على التقاط الروائح، لكن الأشياء أكثرها.. صارت بلا رائحة.