قد يفكر بعض القادة بمنطق المراوغة فى عالم السياسة القذر المليئ بالغدر والخيانات ، لكن القائد المنهجى فى دنيا السياسة مهمته عصيبة ومركبة ، فهو من جهة مطالب بالتعامل مع هذا الواقع بما يقتضيه من مناورات وتحالفات وخدع نظيفة - ان صح التعبير - تلك التى استخدمها الرسول صلى الله عليه وسلم فى بعض المواقف ، لكنه من جهة أخرى مطالب بالحفاظ على ثوابت المنهج وتعاليمه وأخلاقياته وقيمه ؛ فلا خيانة للأمانات ولا نكوص بالعهود ولا استغلال لضعف الخصم بالامعان فى اذلاله ، وقد كانت الدعوة والدولة معاً فى بدايتهما فى حاجة للدعم المادى ولو كان الغدر مع الخصوم والأعداء جائزاً لما رد الرسول صلى الله عليه وسلم أمانات الكفار التى كانت مودعة عنده قبل الهجرة الاضطرارية ، تأميناً لدعوته ودولته الوليدة ، لكنه تجاوز هذه الاعتبارات والمصالح المتوهمة الوقتية الى المصلحة الثابتة العليا وهى مصلحة المنهج ألا يلوث بما ينتقصه أو يخصم من قدره ومكانته ، فليست هناك أية ظروف أو تحديات قاهرة تبرر التخلى عن تعاليم المنهج وأخلاقياته ، لأن هذه التعاليم والأخلاقيات فى ذاتها هى ضامن بقائه وصموده ، فاذا سقطت سقط وتهاوى . حماية ثوابت المنهج وجوهر تعاليمه والحفاظ على منجزاته الأخلاقية والدستورية والانسانية من أخطر وأصعب مهام القائد ولا يقدر عليها سوى الأفذاذ الكبار ، فهم يواجهون الضغوط والتحديات ومحاولات الاستفزاز للتنازل أو الوقوع فى الأخطاء المنهجية الشنيعة لفتح ثغرات للتشويش على المنهج والاساءة اليه ليسهل اختراقه واستيعابه من القوى المضادة . القائد يحافظ على الثوابت الأخلاقية والأساسية فى بنية المنهج ويضع هذه المهمة السامية فى ذروة الأولويات مهما حدث من العدو ومهما تدنى الخصوم الى الحضيض فهو لا يستجيب ولا يقع فى فخاخ الاستفزاز ليصبح هو والأعداء أخلاقياً وانسانياً وقيمياً سواء . الشواهد كثيرة والرسول القائد المنهجى الأول صلى الله عليه وسلم حرص على الوفاء بالعهد ولو للأعداء ، وعن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه قال : " ما منعنى أن أشهد بدراً الا أنى خرجت أنا وأبى حسيل ، قال : فأخذنا كفار قريش ، قالوا : انكم تريدون محمداً ( أى معاونته والقتال فى صفه ) فقلنا : ما نريده ، ما نريد الا المدينة ، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن الى المدينة ولا نقاتل معه ، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر ، فقال : انصرفا ، نفى بعهدهم ونستعين الله عليهم " . هذا أصل عظيم ، فمهما كانت خطايا الأعداء وجرائمهم لا يتورط القائد المنهجى فى فعل من شأنه الخصم من ثوابت المنهج أو اعطاء الفرصة فى الاساءة اليه ، بل نحافظ على الثوابت والأخلاقيات والتعاليم ونجتهد فى الدفع والدفاع بما شرع الله وبما أراد ونتوكل عليه سبحانه ... نفى بعهدهم ونستعين الله عليهم . كيف والرسول صلى الله عله وسلم وهو المؤيد بالوحى وموصول على الدوام بالسماء ، ورغم ذلك يعطى الواقع والتفاعل مع الأخذ بالأسباب والمرونة الحركية كل حقها ، وهذا فى حق القادة المنهجيين التابعين أولى وأجدر فسلوك الرسول كان لاظهار مدى أهمية التعامل بواقعية ومرونة لدرجة أنه يراعى هذا البعد الحيوى رغم مقدرته الذاتية على الاستغناء عنه بصفته الرسولية الا أنه لم يفعل ليربى قادة الأمة على التعامل بواقعية وعدم اغفال التحديات والظروف المحيطة وضرورة التحرك بين الناس فى حدود الطاقات البشرية المتاحة لهم وفى حدود وسع المجتمع ووسع الناس وعدم تكليفهم ما لا يطيقون ، وليس من منطلق وسع القادة وامكانياتهم وقدراتهم .. وقد أقبل رجل بناضحين وقد جنح الليل ، فوافق معاذاً يصلى فترك ناضحه وأقبل الى معاذ ، فقرأ بسورة البقرة أو النساء ، فانطلق الرجل وبلغه أن معاذاً نال منه فأتى النبى صلى الله عليه وسلم : يا معاذ أفتان أنت ؟ أو فاتن ثلاث مرات ، فلولا صليت بسبح اسم ربك ، والشمس وضحاها ، والليل اذا يغشى ، فنه يصلى وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة " - رواه البخارى - .. وهذا أصل منهجى فى اعتبار وسع المجتمع وطاقاته وامكانياته وتحرى السلوك الوسط التدريجى فى ادارة الشأن العام ومراعاة أوضاع الناس وظروفهم وأحوالهم ومعاناتهم . هناك من يتصور أن يدير الأمر من خلال قدراته وفرض أذواقه واختياراته وما يناسبه هو من تكليفات وليس ما يناسب الناس ، وهذا مؤداه الفشل الحتمى ، لأن أصل الادارة هى مراعاة ظروف الناس وقدراتهم والتكيف معها وتوظيفها والاستفادة منها قدر الامكان ، وفى نفس الوقت الحفاظ عليها وتنميتها شيئاً فشيئاً فلا تنكسر ولا يصيبها الملل والضجر والنفور بسبب رغبة البعض فى التحول السريع الانقلابى من حال الى حال ، مع عدم التحلى بالمرونة والواقعية ، جنوحاً الى مستوى مثالى نادر الوجود فى واقع الناس