" صـــــــــــــــابر "
يتأرجح العصفور على سلك المصباح ، ينشد لعصفورته أنشودة المبيت ، تتوافد نسمات الربيع تداعب
الأغصان الوارفـة خلف النافذة ، تنثر في الغرفــة عبق اخضرار السنابل ، تتربـع شمس الأصيل على
الملاءة الحمراء ، تذيب ثلج سنين الوحدة من وسادته الخالية .
يهندم صابر جلباب زفافه وهو شجي بالعصفورين وهمـا يسويان نومتهمـا على شفـا فجـوة من بوص
سقف حجرته ؛ منشرحا بهما .. ومسنرحمـا .. كأنما يريد أن يتلطف بهما ، ويهيئ لهمـا مخدعا طريا .
وقبل أن يرتدي طاقيته الصوف الجديدة ، راح يقلب نثار شعراته البيضاء ، وقـد ارتسمت على وجهـه
ابتسامة ملبدة بالعبوس .. ! وسرعان ماتجاهل هذا الأمر محتسبا هذا البياض وقارا ورسولا ...
ولما فرغ من هندامه ولمساته الأخيرة ، بدا له مظهره ملائما أنيقا .
وبقيت أسئلته على نفسه تطارد أفكـاره : يا تـــــرى ما شكل عروسي .. ملامحهـــا .. ما شعورهـــــا
تجاهي ...؟ يلعن تقاليد بلديهما ...؟! يتساءل ويتساءل ... حتى انقطـــع عن شـروده فور هبوب صخب
الموكب ، فالتفت مسرورا ، يتتبع فدوم الهـودج المتبختر على الطريق الترابي المحصور بين ترعتين ؛
ما أجمله وهو يتمايل مع رقصات الأشجار ، وما أطرب قعقعة السواقي وهي تتناغم مع ضرب الدفوف ،
وما أبهى غانيات الريف وهن يرقصن البلدي على استحياء ..
يتداني الهودج .. يدنو من سور حديقته . ترفع الناقة عنقهـا الطويل وتشمر أشلافها الغليظة ، فتتكشف
أسنانها الضخمة ، لتصدر رغاء ينذر برضوخهــا ؛ وعلى التو تتزايد الجموع فيمتلئ الفناء حول الـدار
بالكبار والصغار ، ويمتلئ الفضاء بزغاريد النسوة ورصاصات مدافع الفتيان ، فيتوالد جلبـا مبهجـــــا ،
يفجر سكون وحدته القاسية ، وليحرره من حصار الصمت ، ويذهب به إلى حصار مشاعره ..
أنفرجت أستـار الهودج ، تبعهــا على الفور انفــــــراج شفتيْه .. وانبهارات عينيْه .. وانصهار خلجاتـه
عيناه تخترق الزحام ، تترقبها وهي تتدلل بخطوات غزالة .. ولما لامست أقدامهــا نجيل بستانه المزهر ،
تابعت السير على استحياء ، متجهه نحو البهـو المتبرج ، وصوب عيْنيْه اللامعتيْن في ضوء أنوثتهـــا
المتدفقة .. تلك العينان التائهتان عن مواطن الجمـال والمفاتن لسنون وسنون .. وعلى لهف تطل روحه
من جسده ــ متعجلة ــ لترمي وثاق العنوسة تحت أحذية الزحـام ، ولترحب بقـدوم الأنس والسكينة على
بوادر اعتناق الروح بالروح .. ويبقى جسده مشتعلا حتى ترطبه جرعـات الأنوثة الماثلة أمام عينيه في
قوام سمهري .. وعلى استعجال منه راح يشربها ــ عن بعد ــ جرعة واحدة ، يعيدها جرعات وجرعات ..
ثم وقف قليـلا على الليل النائم في عينيها .. وتزحزح قليلا إلى شفتيها القانيتين ، الذي كـاد أن يشعلهما
وهي على شفــة التلاق .. بينما هي على خطوتها الأخيرة ، تفكك دلالها بين ذراعيه ، مثلما تفككت بقايا
أعصاب ساقيه من وقفته القصيرة ؛ فخـر على الفور جالسا منهكا .. فتسمرت فرحتهـا وعيناهـــا تحملق
بشدة في كرسيه المتحرك .. ؟! ثم فرت حتى بلعتها الخمائل
عبدالله عيسى
الثلاثا : 2 / 12 / 2014