(حصة خبز)
======
كدت أصل.. أمامي أربعة، وأجد نفسي أمام الشباك.
لا يوجد منفذ واحد في المدينة توزع فيها حصص الخبز الشاح إلا ذلك المكان في وسط المدينة.
كانت أول مرة أذهب إليه تحت إلحاح من زوجتي بعدما قررت أن أتعرف عن قرب ما تعانيه من ألم الطابور.
تأففتُ مستسلما، وخرجت بعد الفجر بقليل مخدرا بالنوم مطوحا أمشي، وأخذت دوري في الطابور.
كان الطابور طويلا متعرجا بين الأبنية والعمارات كدهر لا يتحرك الوقت فيه إلا لخطوات قليلة، ثم يتعثر، ويقف.
كان الجو شتاء، والغيم المتلبد في السماء يزيد من شدة البرودة، وتيار صاقع يهب ويضرب بالأطراف حتى أوشكت أن تتجمد، والوجوه كالحة يائسة تزفر بضيق وقلق، ولا أحد يتزحزح عن دوره.
تقدمت لخطوة، فأزحت رأسي جانبا عن الذي أمامي، فتفاجأت بجدار الفرن المبلط بسواد الدخان، ورأس العامل التي تطل من النافذة يملي أوامره متحكما، ينزل رحماته من الخبز على الواقف أمامه.
شملتني فرحة مباغتة متوترة، وتقدمت لخطوة ثانية.. وقبل أن تتحرك قدمي لتأخذ الثالثة؛ فإذا بها يد معروقة، مرتعشة تلامس كتفي من الخلف.
جفلت واستدرت، فكان الوجه القديم، والتجاعيد البارزة تحت العينين الكليلتين، والطرحة السوداء تغطي الرأس، والجسد الذي زاد الطابور من انحنائه تتوكأ بيدها على عصا خشبية، وتعلق بالذراع الآخر سبت.
استأذنت بصوت متهدج: ممكن أخذ دورك!
نظرت في الساعة التي كانت تتحرك في زمان خارج الطابور، وإلى العيون الزجرة خلفي؛ فترددت.
كررت طلبها بإلحاح شديد: سامحني يا ابني.. أنا متعبة.
أفسحت لها الطريق مرغما تتقدمني، ولعنات الطابور الممتد تنزل فوق رأسي كالجمر.
حاولت مع الشخص الذي كان أمامي، لكن نظرة واحدة منه كنصل سكين كانت كافية لأن تجعلها تغمغم: يا ابني حرام عليك!
في الخطوات القليلة الباقية إلى الفرن كان يدور صراعا هامسا بين العجوز والشخص الذي أمامها، هي تغمغم: يا ابني حرام عليك. ويرد الآخر مشوحا زاجرا: حرام على أمثالك.
اكتفيت بالمتابعة لا أفهم، وظللت وراءها أتحسس تقدمها حتى أخذت حصتها من الخبز، وخرجت من الطابور.
ولما جاء دوري، قال العامل بصوت خشن: نفد الخبز.. أمامك نصف ساعة.
أطل زحام السيارات، ووجه المدير الجامد، وزوجتي تضحك بلا توقف، والعجوز التي وضعت الخبز في السبت، والطابور الذي يحملني كل مصائب الدنيا؛ فنكست رأسي مستاء.
لكن أكثر ما حرك غليان الغضب في عروقي ذلك الشاب اليافع الذي نزل من السيارة، والتقف السبت من ذراع العجوز بقبضة قوية، التي مضت تستند على عصاها، وقد طافت على وجهها ظلال الغيم الماطر، ناولها مبلغا من المال، ثم سار محاذيا لها يغني.
11/11/2014