"خاطرة لم تبلغ الغاية"
كل ذلك لم يكن يعني لك أي شيء، لم تكن متورطا فيه عاطفيا، لم يكن حلم حياتك!
ِ
كانت الأيام قد دارت دورتها معك، وكنت أكثر الناس رغبة في الطمأنينة والسلام، لم يلهمك قلبك اليافع وخاطرك المسالم إلا أن تساير الدنيا، حتى لأجل حلمك أنت لم تكن ترغب في القتال! هذا كله حولك إلى مقاتل! لست أدري كيف يصيغ الإنسان حياته بتلك الطرق العجيبة ولا كيف يعيش تلك التناقضات المتسقة! ولست بدعا من الناس، كلنا كذلك.
ِ
لكنك عندما أركعتك رصاصة طائشة في غير ساحة حرب، وسط الظلال المتراقصة والصمت المتشح بالظلمة، عندما تعثرت خطواتك المرسومة بالدم نحو جدار قريب، ودون زفرات ولا صراخ، ودون أن يشعر بك أحدٌ، نزفتَ هناك في العتمة حتى الموت محروما من الرفقة، من عينين مشفقتين، من هلع الأحبة وذعرهم، من محاولاتهم اليائسة لإنقاذ روح ترفرف بكل ما فيها لتتحرر من قضبان الجسد، من صدر يتكئ رأسك المثقل إليه، من كفين تبعثان بعض الدفء في كفيك اللتين جمدهما النزيف، من قلب ينصت لك للمرة الأخيرة وأنت تتأمل في الحياة، من صوت بشري يبدد عنك بعض غربة الاحتضار، من روحٍ تراقبُ بخوفٍ وذهولٍ وتشتتٍ تلك النظرة المطمئنة والبسمة الراضية وهما تتمددان في ملامحك الدمثة مع تمدد الموت فيها، من شهقة تتمازج بشهقتك الأخيرة!
ِ
موتك المفاجئ البطيء المتعثر وحيدا شابا بعيدا عن كل أحلامك وأمانيك، أعزل من كل شيء وشخص أحببته، موتك بتلك الصورة البعيدة كل البعد عن الحياة والممات اللذين تمنيتهما وحلمت بهما، البعيدة كل البعد عن موتٍ هادئٍ مسنٍ محاطٍ بالأبناء والأحفاد والحب، والبعيدة كل البعد عن موت يهز الدنا لإنسان عاش يهزها وكان يستحق ذاك الاهتزاز وتلك الرعشة، كل ذلك وضعني أمام حقائق عارية جدا، عارية أكثر مما يجب، وكأنه رماني في بحيرة مغطاة بالجليد: لا أجد إلا عتمة مضيئة وبردا قاتلا ويأسا مرعبا وذعرا مشتتا وموتا لا تتخلله لمحة من حياة!
ِ
// ما هي الحياة؟ ما هي العظمة؟ من أجل ماذا ذاك التنافس والتصارع وتلك اللهفة؟ ما هي الدنيا؟ من نحن؟ وما حيواتنا؟
ِ
ما أشد تفاهة الإنسان وغروره عندما يخيل إليه أن غاية حياته أن يبني لنفسه مجدا!! وأنه إن أراد فستتضافر معه الأكوان لتحقيق ذاك المجد الشخصي! وما هو إلا هباء! لحظةٌ عابرةٌ في التاريخ، كينونةٌ عابرة في الوجود، نغمةٌ عابرة في الجوقة، بتلةُ وردٍ تسقط منسية بصمت.
كُلُّه وطموحاته وحروبه الخاصة وأطماعه وخططه وسهره وجده ولهوه، كله وكل ذلك ومضة واحدة من ضوء في نهر من الأنوار لا أكثر، فلا يقتلنه الغرور! لا يصدقن أنه محور للحياة ولا أنها تُعنى برضاه أو سخطه.
كينونةٌ عابرةٌ لا قيمةَ لها... إلا إذا كانت قطرة... تسعى بجد لتكون من السيل الذي بالكل يغير الكثير، أو من النهر الذي بالكل يحيي الموات. مهما كان مهما كان مهما كان، إن لم يكن جزءا من الإنجاز للكل، سيكون الأمر بعدما تُحطِّمُ روحُه الأقفاص وكأنه لم يكن قط!
ِ
عاش لأجله، ومات لأجله، لا أكثر!
ِ
ما أهون هكذا حياة! ما أضيع! //
ِ
إحساس الخسارة والمرارة بعد موتك، تلك الصدمة المروعة ونحن نجدك غارقا في بركة من دمك، مستكينا صامتا، بعينين مليئتين بالمعاني والأحلام المذبوحة، وبسمة مرتعشة بردا مملوءة بالرضا والتسامي، وأنامل تمتد للبعيد.. للمجهول..
وكأنك كنت تشفق علينا من موتك، ومن الحياة بعدك، وكأنك كنت تلاقي ما طال بحثك عنه، وكأنك كنت تجد كل هذا الزحام الذي يغيبنا ويعشي أبصارنا وأفئدتنا مجرد ضجيج فارغ تتوق للخلاص منه!
لم تكن تتوق للموت، لكنك لم تكن تريد هذه الحياة!
كل ما تمنيته كان السلام والسكينة والرقي!
وهو كل الذي لم تجد سبيلا إليه!
ِ
كل ذلك لم يكن يعني لك أي شيء، لم تكن متورطا فيه عاطفيا، لم يكن حلم حياتك!
ولم يلهب خيالك يوما حلمٌ بأمجاد تعنون باسمك، لم يستغرقك الطموح المغرق بالغرور، لم تستهلكّ الأنانية، لكنك لما حوصرت في تلكم الحياة عشتها بكل فيها وكل ما فيك، كنت صادقا في كل لحظة، وحتى اللحظة الأخيرة، كنت عظيما، ووصلت إلى الذي لم يصل إليه من كانت تلك الأضواء منتهى آمالهم... فقط لأنك كنت تحيا بصدق، وبكل جارحة من جوارحك، وكنت تخلص في إتقان كل ما ترميك الحياة به أحببته أم لا، لم تسمح للتقبل من عدمه أن يكون حجر عثرة في دروبك، كان الإتقان هو كل ما تبقى لك مما ترتضيه في الحياة.
ولست أدري لماذا، لكن الإتقان أيضا وحده هو ما يخطر على بالي عندما أستحضر عيني موتك اللتين كانتا بخلاف أعين الموتى الخاوية من التعبير، مليئتين بالكلام الذي ظلت تردده أفعالك طوال حياتك.""