التدبر عنوان لعقل رشيد وقلب سليم
إن التّدبُرْ إذا تمكن من المرء كان عنوانا يدل على صحة عقله وكماله وسلامة قلبه وجماله , فالعقل الرشيد لا يدع الظواهر الطبيعية ولا الآيات الكونية , تمر أمامه مرور الكرام , دون أن يلتقط إيحاءها ويتأمل جلالها ويستمتع بجمالها ويتعرف على عظم أوصاف باريها ومجريها , إن ربي لما يشاء قدير , فالقلب النابض يتذوق تلك التأملات وينسجم معها ويتناغم مع المخلوقات كأنما هما تؤمان في وفاق وأنس وانسجام , فهو يراها حبيبة إليه, آنسة لدية , يجد نفسه معها يستلذ حديثها ونجواها في خلواته و سياحته , ويعبر إليها في استرواحه واستراحاته , يقول العقل للقلب إن هذا الانسجام بينك وبينها و بينها وبين بعضها البعض ليدل على وحدة الصانع لهذه الصنعة الواحدة المتقنة في كل مخلوق وآية , إنها لتدل على عظمة وقدرة صانعها وحسن تدبيره وإحكامه , فهو واحده الحكيم المدبر القادر على كل شيء , ولو كان من عند غير هذا الموصوف , لوجدنا اختلافا كبيرا بين هذه الآيات وهذه المخلوقات وما وجدنا انسجاما ولا تناسقا أبدا , والاختلاف يعنى التضارب وتعدد الصانع وهذا محال مع هذا الانتظام الدقيق بين سائر المخلوقات , انظر إلى تداخل الليل والنهار , وانتظام الشمس والقمر وعلاقة الماء والكلاء وعلاقة كل ذلك بالإنسان, هذه الاستمرارية المنتظمة كلها تدل على أحادية الله الواحد وتفرده بصنعته , لأنه لو كانت هناك آلهة أخرى غير الله لذهب كل إلهٍ بما خلق , ولفسدت السماوات والأرض ومن فيها , لاختلافها وعدم تناغمها وانتظامها.
وفق هذا السياق يصح التأمل ومن هذا المنظور تتحقق ثمرة التدبر ودن ذلك رعونة وهباء وتبديد وعبث , فمن جهل هذا الحق الأوضح من الوضوح فلا حياة لعقله ولا لقلبه , ومادام هذا هو معنى التدبر للكون اقتضى ذلك أن ينسحب لغيره وأن يماثله التدبر للقرآن من باب أولى فلو كان القرآن من عند غير لله لوجدوا فيه اختلافا كثير فالكون قرآن منظور والقرآن كون مقروء , قال تعالى :
أفلا يتدبرون القرآن  ؟ {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا} 82النساء يقول سيد قطب: "وفي هذا العرض ، وهذا التوجيه ، منتهى الإكرام للإنسان وإدراكه وشخصيته - كما قلنا - كما أن فيه منتهى النصفة في الاحتكام إلى هذا الإدراك في ظاهرة لا يعييه إدراكها ، وهي في الوقت ذاته ذات دلالة - كما أسلفنا - لا تمارى !
والتناسق المطلق الشامل الكامل هو الظاهرة التي لا يخطئها من يتدبر هذا القرآن أبدا ، ومستوياتها ومجالاتها ، مما تختلف العقول والأجيال في إدراك مداها، ولكن كل عقل وكل جيل يجد منها - بحسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه - ما يملك إدراكه ، في محيط يتكيف بمدى القدرة والثقافة والتجربة والتقوى .
ومن ثم فإن كل أحد ، وكل جيل ، مخاطب بهذه الآية ، ومستطيع - عند التدبر وفق منهج مستقيم - أن يدرك من هذه الظاهرة - ظاهرة عدم الاختلاف ، أو ظاهرة التناسق - ما تهيئه له قدرته وثقافته وتجربته وتقواه .
وتلك الطائفة في ذلك الجيل كانت تخاطب بشيء تدركه ، وتملك التحقق منه بإدراكها في حدودها الخاصة .
تتجلى هذه الظاهرة ، ظاهرة عدم الاختلاف ، أو ظاهرة التناسق ، ابتداء في التعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنية ، ففي كلام البشر تبدو القمم والسفوح ؛ التوفيق والتعثر ، القوة والضعف ، التحليق والهبوط ، الرفرفة والثقلة ، الإشراق والانطفاء . . . إلى آخر الظواهر التي تتجلى معها سمات البشر، وأخصها سمة "التغير" والاختلاف المستمر الدائم من حال إلى حال ، يبدو ذلك في كلام البشر ، واضحا عندما تستعرض أعمال الأديب الواحد ، أو المفكر الواحد ، أو الفنان الواحد ، أو السياسي الواحد ، أو القائد العسكري الواحد ، أو أي كان في صناعته ؛ التي يبدو فيها الوسم البشري واضحا ، وهو: التغير ، والاختلاف ، هذه الظاهرة واضح كل الوضوح أن عكسها وهو:الثبات، والتناسق ، هو الظاهرة الملحوظة في القرآن - ونحن نتحدث فقط عن ناحية التعبير اللفظي والأداء الأسلوبي - فهناك مستوى واحد في هذا الكتاب المعجز - تختلف ألوانه باختلاف الموضوعات التي يتناولها - ولكن يتحد مستواه وأفقه ، والكمال في الأداء بلا تغير ولا اختلاف من مستوى إلى مستوى، كما هو الحال في كل ما يصنع الإنسان ، إنه يحمل طابع الصنعة الإلهية؛ ويدل على الصانع ، يدل على الموجود الذي لا يتغير من حال إلى حال، ولا تتوالى عليه الأحوال ! .
وتتجلى ظاهرة عدم الاختلاف ، والتناسق المطلق الشامل الكامل ، بعد ذلك في ذات المنهج الذي تحمله العبارات ، ويؤديه الأداء ، منهج التربية للنفس البشرية والمجتمعات البشرية - ومحتويات هذا المنهج وجوانبه الكثيرة - ومنهج التنظيم للنشاط الإنساني للأفراد وللمجتمع الذي يضم الأفراد - وشتى الجوانب والملابسات التي تطرأ في حياة المجتمعات البشرية على توالي الأجيال - ومنهج التقويم للإدراك البشري ذاته وتناول شتى قواه وطاقاته وإعمالها معا في عملية الإدراك ! - ومنهج التنسيق بين الكائن الإنساني بجملته - في جميع مجتمعاته وأجياله ومستوياته - وبين هذا الكون الذي يعيش فيه ؛ ثم بين دنياه وآخرته ؛ وما يشتجر في العلاقة بينهما من ملابسات لا تحصى في عالم كل فرد؛ وفي عالم "الإنسان" وهو يعيش في هذا الكون بشكل عام .
وإذا كان الفارق بين صنعة الله وصنعة الإنسان واضحا كل الوضوح في جانب التعبير اللفظي والأداء الفني ، فإنه أوضح من ذلك في جانب التفكير والتنظيم والتشريع ، فما من نظرية بشرية ، وما من مذهب بشري ، إلا وهو يحمل الطابع البشري ، جزئية النظر والرؤية ، والتأثر الوقتي بالمشكلات الوقتية ، وعدم رؤية المتناقضات في النظرية أو المذهب أو الخطة التي تؤدي إلى الاصطدام بين مكوناتها - إن عاجلا وإن آجلا - كما تؤدي إلى إيذاء بعض الخصائص في الشخصية البشرية الواحدة التي لم يحسب حساب بعضها ؛ أو في مجموعة الشخصيات الذين لم يحسب حساب كل واحدة منها ، إلى عشرات ومئات من النقائص والاختلاف ، الناشئة من طبيعة الإدراك البشري المحدود ، ومن الجهل البشري بما وراء اللحظة الحاضرة ، فوق جهله بكل مكونات اللحظة الحاضرة - في أية لحظة حاضرة ! - وعكس ذلك كله هو ما يتسم به المنهج القرآني الشامل المتكامل ، الثابت الأصول ؛ ثبات النواميس الكونية ؛ الذي يسمح بالحركة الدائمة - مع ثباته - كما تسمح بها النواميس الكونية!
وتدبر هذه الظاهرة ، في آفاقها هذه ، قد لا يتسنى لكل إدراك ، ولا يتسنى لكل جيل ، بل المؤكد أن كل إدراك سيتفاوت مع الآخر في إدراكها ؛ وكل جيل سيأخذ بنصيبه في إدراكها ويدع آفاقا منها للأجيال المترقية ، في جانب من جوانب المعرفة أو التجربة ، إلا أنه يتبقى من وراء كل الاختلاف البشري الكثير في إدراك هذه الظاهره - كاختلافه الكثير في كل شيء آخر ! - بقية يلتقي عليها كل إدراك ، ويلتقي عليها كل جيل ، وهي أن هذه الصنعة شيء وصنعة البشر شيء آخر ، وأنه لا اختلاف في هذه الصنعة ولا تفاوت ، وإنما وحدة وتناسق ، ثم يختلف الناس بعد ذلك ما يختلفون في إدراك آماد وآفاق وأبعاد وأنواع ذلك التناسق !. "
وإلى هذا القدر الذي لا يخطئه متدبر - حين يتدبر - يكل الله تلك الطائفة ، كما يكل كل أحد وكل جماعة ، وكل جيل ، وإلى هذا القدر من الإدراك المشترك يكل إليهم الحكم على هذا القرآن وبناء اعتقادهم في أنه من عند الله ، ولا يمكن أن يكون من عند غير الله." .
يا كوكباً زاه بشريان الحيـــــــــــــــاة يشعُّ فجراً في تناسقه سلــــــــــــــك
آياتُك العظمى تفيض جداولاً كل الوجود كمـا أراه يدين لك
يسري النسيم وأنت تسري كوثراً تروي الظما ويظلُّ قلبي منزلَكْ
يا من يسافر بين أضلاع الحياة بحكمةٍ موصولةٍ ما أعـــدلــــــــــــــــــ ك
كم يرشف الوجدان منك صفاءهُ والروح تشرق والقلوب تفيض لك
أطلقت فجر النور في عين الدجى هدياً وربك للبريةِ جّملــــــــــــــك
أشقى البرية من تجاهل نورك الــــــــــــــوضاء ما أشقــــــــــــــى فؤاداً يجهلك
هيهــــــات أن أحيا بغيرك يا كتـــــــــــــــــــاب الله إني والوجــــــــــــود فداء لك
وقفة الإدراك البشري بين الممنوح والممنوع
ويستمر قطب في استطراده فيقول:"ويحسن أن نقف هنا وقفة قصيرة ، لتحديد مجال الإدراك البشري في هذا الأمر وفي أمر الدين كله ، فلا يكون هذا التكريم الذي كرمه الله للإنسان بهذا التحكيم ، سبيلا إلى الغرور ، وتجاوز الحد المأمون ؛ والانطلاق من السياج الحافظ من المضي في التيه بلا دليل ! إن مثل هذه التوجيهات في القرآن الكريم يساء إدراكها ، وإدراك مداها، فيذهب بها جماعة من المفكرين الإسلاميين - قديما وحديثا - إلى إعطاء الإدراك البشري سلطة الحكم النهائية في أمر الدين كله ، ويجعلون منه ندا لشرع الله ، بل يجعلونه هو المسيطر على شرع الله !
الأمر ليس كذلك ، الأمر أن هذه الأداة العظيمة - أداة الإدراك البشري - هي بلا شك موضع التكريم من الله - ومن ثم يكل إليها إدراك الحقيقة الأولى:حقيقة أن هذا الدين من عند الله ، لأن هناك ظواهر يسهل إدراكها ؛ وهي كافية بذاتها للدلالة - دلالة هذا الإدراك البشري ذاته - على أن هذا الدين من عند الله ، ومتى أصبحت هذه القاعدة الكبيرة مسلما بها ، أصبح من منطق هذا الإدراك ذاته أن يسلم - بعد ذلك - تلقائيا بكل ما ورد في هذا الدين - لا يهم عندئذ أن يدرك حكمته الخفية أو لا يدركها ، فالحكمة متحققه حتما ما دام من عند الله ، ولا يهم عندئذ أن يرى "المصلحة " متحققة فيه في اللحظة الحاضرة ، فالمصلحة متحققة حتما ما دام من عند الله ، والعقل البشري ليس ندا لشريعة الله - فضلا على أن يكون الحاكم عليها - لأنه لا يدرك إلا إدراكا ناقصا في المدى المحدود ؛ ويستحيل أن ينظر من جميع الزوايا وإلى جميع المصالح - لا في اللحظة الواحدة ولا في التاريخ كله - بينما شريعة الله تنظر هذه النظرة ؛ فلا ينبغي أن يكون الحكم فيها ، أو في حكم ثابت قطعي من أحكامها موكولا إلى الإدراك البشري ، وأقصى ما يتطلب من الإدراك البشري أن يتحرى إدراك دلالة النص وانطباقه ؛ لا أن يتحرى المصلحة أو عدم المصلحة فيه ! فالمصلحة متحققة أصلا بوجود النص من قبل الله تعالى ، إنما يكون هذا فيما لا نص فيه ، مما يجد من الأقضية ؛ وهذا سبق بيان المنهج فيه ، وهو رده إلى الله والرسول ، وهذا هو مجال الاجتهاد الحقيقي ، إلى جانب الاجتهاد في فهم النص ، والوقوف عنده ، لا تحكيم العقل البشري في أن مدلوله يحمل المصلحة أو لا يحملها !!! إن مجال العقل البشري الأكبر في معرفة نواميس الكون والإبداع في عالم المادة ، وهو ملك عريض !!! يجب أن نحترم الإدراك البشري بالقدر الذى أراده الله له من التكريم في مجاله الذي يحسنه - ثم لا نتجاوز به هذا المجال ، كي لا نمضى في التيه بلا دليل ، إلا دليلا يهجم على ما لا يعرف من مجاهل الطريق ، وهو عندئذ أخطر من المضي بلا دليل" !!!" .