" نزار .. ما لا تعرفونه عن مؤتمر شرم الشيخ "


هذا المقال كتبه المبدع العربى الكبير نزار قبانى فى أعقاب حرب أكتوبر تشرين 73م .. وهو موجه اليوم الى عدة أطراف حتى لا تذهب بهم الخيالات و " أوهام العظمة ونفوذ المال " بعيداً عن حقائق الواقع .
الطرف الأول : العرب .. حكامهم ، أثرياؤهم ، شعوبهم .. وأنا مع نزار قلباً وقالباً فيما قاله بأن العرب عليهم واجب دعم مصر وهى ضريبة لابد من أن تدفع لمن يقاتل ويذود عنهم .. ليس فقط ضد اسرائيل وخطر الصهيونية .. انما أيضاً فى مواجهة الارهاب الأعمى الغشوم ومواجهة ما أسماه نزار كتائب " كسرى أنو شروان " .
الطرف الثانى : الكيانات والتيارات والفصائل المناوئة للدولة المصرية .. التى تظن – أو تروج لمصالح سياسية وحزبية – أن مصر " تشحت من العرب " ، غافلين عن دور مصر فى المنطقة وعن الأولوية الكبرى فى كل الأزمنة وليس فى تلك المرحلة فقط .. فليست الأولوية رفاهية المواطن – وان كانت مطلوبة – ولا تحسين الاقتصاد والأوضاع المعيشية ، فكل ذلك تسعى اليه مصر ، لكن يأتى بعد ترسيخ قوة ومكانة " مصر المحاربة " " مصر المقاتلة " " مصر الاسبارطية " .. لا مصر هونج كونج ولا سنغافورة ولا مونت كارلو .. فالأولوية الكبرى لدعم المقاتل المصرى ودعم مصر المحاربة عدة وسلاحاً فى دفاعها الدائم عن نفسها وعن العرب والمسلمين .
قال نزار لملوك وأمراء العرب – ممن قد يمنون على مصر أو يعتبرون ما يقدمونه تبرعات وهبات وصدقات – وقال للاخوان وشركائهم .. ما أريد اليوم قوله .
فمصر تضع يدها على بطنها من قسوة الجوع ، مصر ترهن أساورها وضفائرها وملاءتها ، ولا أحد يقرأ دموع مصر ولا أحد يرى جراح مصر ولا أحد قلبه على مصر .. الأمريكان يذهبون الى مصر سائحين ، والعرب يذهبون اليها شمامى هواء ، قطافى ورود ، ولا أحد يرى نزيف مصر ولا أحد يسمع صدرها المثقوب بالسعال ، ولا أحد يبصر كيف النخيل فى عينيها الخضراوين يبكى ؛ فمصر عند العرب هى فندق شيراتون وهيلتون وشبرد ونجوى فؤاد وسهير زكى – اليوم دينا وصافيناز - وبقية الخصور والأرداف ، هى الجارية التى ترقص على موائد العرب والراقصة التى تزف أولادها فى الأعراس والمغنية التى تحيى لهم الليالى الملاح .. وبدلاً من أن يدفع العرب " الجزية " لمصر لأنها حمت أرضهم وأرزاقهم وأولادهم وأعراضهم من الاغتصاب ، نجدها تدفع " الجزية للعرب " وهى تبتسم ، نجدها تتسول الشاى والطعمية والفول المدمس ورغيف العيش ، بينما أثرياء العرب يقامرون فى كازينو المقطم .
بدلاً من أن يقبل العرب يد مصر من الوجه والقفا لأنها حاربت بالنيابة عنهم وجاعت وعطشت بالنيابة عنهم ، نجدهم يتوقعون من مصر أن تقبل أيديهم وتسبح بحمدهم وتمسح أطراف عباءتهم المقصبة .
مصر شبعت من باقات الزهور وقصائد الشعر التى يحملها اليها عشاق العرب .. مصر باختصار تريد أن تحاسب " البقال " وتدفع أجرة غرفتها .
ربما تستحى مصر أن تقول ان غرفتها محجوزة وان " البقال " السوفياتى – واليوم البقال الفرنسى والأمريكى أيضاً - يطرق بابها كل صباح مطالباً بتسديد فاتورة الطائرات والصواريخ .. فاما أن يواجه العرب مسئولياتهم برجولة واما أن يأخذوا رسائلهم الغرامية وينسحبوا من مصر غير مأسوف عليهم.
أما أن تبقى مصر بالنسبة للعرب مجرد وصلة طرب أو مسرحية هزلية أو رحلة نيلية الى الأقصر وأسوان ، فهذا فى نظرى منتهى الاستغلال لأرض مصر وشعب مصر وطيبة وآلام مصر .
مصر هى " بروسيا " العرب .. لا هونج كونج أو سنغافورة أو مونت كارلو العرب ، ولقد كان بامكان الرئيس عبد الناصر لو أراد أن يجعلها بخمس دقائق مونت كارلو ثانية لا هم لها سوى التزلج نهاراً ولعب الروليت ليلاً .
ولقد كانت الولايات المتحدة فى عام 1952م على أتم استعداد لاعطاء عبد الناصر كل ما يريده من أجل تحقيق هذا " الحلم الصغير " لكن عبد الناصر كان كبيراً ، والكبير لا يحلم أحلاماً صغيرة .. أليس هذا بامكان مصر اليوم وفى كل مرحلة " أن تسلم السلاح وتتخلى عن دورها القتالى والحربى وتعيش منعمة مرفهة فى أحضان أمريكا وايران .. وتترك العرب لينهشهم كل ناهش سفاح شره - ؟
" ولا يزال " بامكان السادات – وبامكان مصر فى كل وقت فهى ليست رئيساً أو زعيماً انما دولة - اذا أراد أن ينزع عن مصر صفة الدولة المحاربة ويحول ألوف الملايين التى تدفق على الآلة الحربية المصرية الى قطاع الاستهلاك فلا يضطر المواطن المصرى للوقوف فى الطابور للحصول على أوقية شاى " أنبوبة غاز " .
كان لابد لمصر من أن تختار بين الموقف السهل والموقف الصعب ، بين الزمن الضيق والزمن العريض .. بين أن تكون اسبارطة أو أن تكون جزيرة كابرى.
وطبعاً اختارت مصر قدرها الاسبارطى ، وفى اسبارطة كما فى جميع الدول المحاربة يأتى المقاتلون فى المرتبة الأولى ويقف الاقتصاد القومى خلفهم بكل قدراته .
أما الذين لا يقاتلون أو لا يذهبون الى الجندية فيدفعون الضرائب وبدل الخدمة العسكرية .. وهذا المبدأ يجب أن يطبق فوراً فى العالم العربى " الذين لا يقاتلون يدفعون لمن يقاتلون "
والدفع للمقاتلين يجب ألا يأخذ شكل التبرع أو الصدقة أو الزكاة وانما يجب أن ينظم تنظيماً ضرائبياً لا يهرب منه كبير ولا صغير .
مصر اليوم تفعل ما طلبه نزار قبانى قديماً من الرئيس السادات فعله " أن يجمع العرب فى غرفة واحدة ويقول لهم " أنتم تملكون مالاً ولا تقتلون ونحن نقاتل ولا نملك مالاً ومصر لا تستطيع أن تسكن الى ما شاء الله فى غرفة مرهونة .. فاما أن تدفعوا أو ستضطرون الى الانتقال نهائياً من الحى العربى الى بلاد الجان وأحضان كسرى أنو شروان " .
وتلك حقيقة يا عرب ويا " اخوان " ، فبدون مصر وجيشها وشعبها ونضالها ومقاتليها ومحاربيها .. لكان العرب جميعاً اليوم فى أيدى الجان طويلى الشعر أو فى أحضان ايران – وهذا هو الأرجح " !