قراءة أسلوبية في شعر نادية بوغرارة
قراءة أسلوبية
في ديوان زمان الوصل _ للشاعرة والأديبة المغربية أ. نادية بوغرارة
الشعر ذلك الكائن الذي يخطف الأبصار، ذلك الشيء المخملي في تلافيف ذاكرتنا، وهذه الروح التي تسكننا شعراءَ وأدباءَ وعاشقين للشعر ونقدةَ.
نقف أمامه بقدسية غريبة، ونعيش في جنباته لحظاتٍ لا تنقضي من المتعة والانبهار والوعي واليقظة المصحوبينِ بالتجلي والترقي والتبتل في محاريب دهشته وروعته.
والشعراء هؤلاء الثائرون في زمن تمور فيه أمتنا مورا، هؤلاء القادرون على أن يبعثوا في الأمة كثيرا من نورانية غائبة.
ومع الشعر والشعراء ومع شاعرة عربية لها حضورها البارز في المشهد الأدبي على امتداد رقعة الجرح العربي؛ من الخليج العربي إلى المغرب العربي الشامخ الأبي، ستكون لي كقارئ غزيٍّ فلسطيني وقفةٌ مع ديوانها، ألقي عليه بظلال قراءة لبعضَ المقاربات الأسلوبية التي تقتضيها طبيعة القراءة النقدية للمجاميع الشعرية، وتلقي الظلال على السمات الشعرية العامة للشاعرة العربية المغربية أ. نادية بوغرارة.
من يجوس خلال الديوان يجد بصمات الشعر النسائي العربي واضحة، فالديوان يتوزع بين هموم الوطن العربي الكبير وأتراحه، ويرنو لأفراحه الغائبة، يستمطرها، وبهذا نحن أمام المرأة العربية الشاعرة التي لا تغيب عن تفاصيل الوجع الساكن أعماق الأمة. وبين الشعر الوجداني العاطفي، نرى الشاعرة العربية التي تمضي بنا بين شعر إنساني يتأمل النفس البشرية وينوب عنها في رسم مشهد عذابات هذا العصر، ونرى تلك الشاعرة أيضا وقد رسمت لنا لوحات من الغزل الشفيف والعشق الشريف، وهذه هي طبيعة الشاعرة العربية التي تجيد العزف على وتريْ الروح والعشق.
• اتسم ديوان الشاعرة العربية المغربية أ. نادية بوغرارة بسمات الشعرية المعاصرة، سنقف على بعض السمات التي تبرز تلك الشعرية:
جاءت لغة الشاعرة ضمن المعجم الشعري الذي يجمع بين التجديد والابتكار وبين المحافظة على اللغة الموروثة، مما منح المعجم صفة السهل الممتنع، فتشيع مفردات حديثة نحو النقش والحريق والمشاعل والانثيال والعزف ... كما تمتد عبر الديوان مفردات اللوعة والالتياع والشوق والاشتياق. مع الابتعاد عن اللغة المعقدة فلا يلمح القارئ تلك اللغة النافرة القائمة على التهويم والتذرير والتفكيك.
• ظهرت لدى الشاعرة النزعة العاطفية الحالمة والتي تقترب كثيرا من الشعر الرومانطيقي، وهذا بسبب غلبة الشعر الغزلي والعِشْقِيِّ في ديوانها، والذي يتماهى مع طبيعة تلك المواضيع.
• اكتسبت الشاعرة القدرة على التحليق فنوعت الشاعرة بين القصائد العمودية وبين قصائد التفعيلة، حسب طبيعة الشعر المطروق والحالة التي كابدتها في لحظة التنوير والانطلاق، فكانت قصائدها العمودية ذات سمات وخصائص تقترب من الشعر العربي التقليدي في قديمه تارة _مع استقلالية الشاعرية _ وفي حديثه أخرى. بينما كانت نصوص التفعيلة حالة شعرية متميزة في معالجتها.
• ففي قصيدة كف النور؛ يلمس المتلقي الإيقاعَ الشعري المتسارع، الذي يبدأ بالنداء لذلك الكف الذي اتخذ رمزية الدفء والبسط. ليصل للغة الهيام التي تحج ديار الفن. لتحط رحالها في سحر ذلك الكف، وما أسبغه من تضوعات ومسك. مع قدرة على الإمساك بتلابيب القافية المركزية للنص وسيطرتها عليه، لتلقي تلك الفاء الهامسة الساكنة بجرسها الموسيقي المتسلل للأذن بنعومة وحلاوة، تؤكد قدرة الشاعرة الموسيقية العالية. كما ظهرت براعتها الموسيقية أيضا بتنويع القوافي في قصيدة "البيت" بين النونية السهلة وبين الذائية النادرة.
• جاءت الصورة الشعرية بعيدة عن سوريالية الحداثيين، أو حداثة السورياليين، فكانت الصورة بحق شفيفة متوهجة، منتمية لروح العصر ومستمدة منه ألقها؛ فهنا:
هذا غرامي
يجتر خيبات السنين
لحن الوداع يشفه
ويجره رجع الحنين..
أو تأسفين؟
هل تجبر الأعذار ما كسرت يمين
هل تبعث الزفرات ميتنا الدفين
نقف على صورة طولية متماسكة تقع في دائرة واحدة، توهجت بالمزواجات الحسية التجريدية، بوقع إدهاشي ينتشي له المتلقي؛ فخيبات السنين كالماء المختزن الذي يجتره العاشق في صحراء الأشواق، ورجع الحنين وصداه سكين ماضٍ يحز لحن الوداع، والأعذار غدت جابرة لكسر اليمين، والزفرات باعثة لميت ذلك العشق. فهنا مجموعة من الاستعارات والتشبيهات الحديثة تجمعت في جزيئات فسيفسائية لتكون نقشا شعريا يؤكد تفوق الشاعرة وتميزها التصويري البنائي.
• تعدد لغة الخطاب الشعري في الديوان، بين الخطاب بلغة المرأة وبين الخطاب بلغة الرجل، وبين الخطاب بلسان المخاطب والخطاب بلغة الغائب، وبروز واضح للخطاب بلسان المتكلم، وظهور للغة السرد الشعري والحوار الداخلي.
• برزت لدى الشاعرة بعض السمات الأسلوبية، منها: استخدام التصغير بغرض كان واحدا وواضحا وهو التحبب والتودد في نحو: أُهَيل ، نُجَيْمة ، أُخَيات، أُحيلى . ومن تلك السمات التكرار الأسلوبي للمفردة واللفظة وللتركيب والجملة، ففي قصيدة " أنا لا أراك " كان التكرار ملموسا وبارزا للجملة الاسمية " أنا لا أراك " وللفعل المؤكد " قد كنت " ، وللجملة الاستفهامية " هل تذكرين ". كما نجد أن الشاعرة برعت في توظيف الأساليب البلاغية والشعرية، ومازجت بين الطلبي والإنشائي. فالنداء والأمر والاستفهام والتعجب حمل دلالات التحسر والتفجع والترحم والبعث والحزن.
كذلك هناك تغليب لاستخدام الفعل الماضي وحضور له في الديوان، هذه الأفعال جسدت الحركة والصوت والذوق، فالفعل نقش في القصيدة ذاتها " أنا لا أراك " يدل على حركة مستمرة من النقش ليرسخ مفهوم المحمول لذلك الفعل. وكذلك الفعل يحرق يحمل حركة الاشتعال في المحمول "الشعر يحرق". كذلك نجد الفعل غص في قصيدة دموع الرجال يحمل ذائقة المرارة التي ولدها قول الشاعرة " غض النحيب ". والفعل تنهد يحمل صوت التنهد.
• اتجهت الشاعرة في ديوانها نحو الشعر السياسي، وكان هذا واضحا في القصيدة التي حملت اسم الديوان، زمان الوصل؛ حيث اتكأت على القصيدة التي دوت عبر العصور وكانت بكائية الأندلس المجيد، فاتخذتها الشاعرة مدخلا للإبحار في عمق الحزن العربي الكبير. فكان المشهد الأول من النص معارضة تضمينية في الصدر أو العجز.
ثم انتقلت بنا الشاعرة بعد مقدمة غزلية إلى واقع شعري معاصر، ليبدأ المشهد الثاني بنداء الولاة بلغة حملت السخرية والمرارة لتقذف في وجوههم ذلك السؤال الموجع: هل شققتم من يدي ملتمسي؟
ثم تمضي لتصف لنا بكاء المدن التي أحالها شيطان التغول والافتراس إلى مرتع تعيث فيه نذالته وبذاءته، وكيف غاب الحرس عن حماية الأطفال والرجال والنساء الذين أمعن الباغي تقتيلا بهم.
لينتهي المشهد الثالث والأخير بنداء الأمة وبث روح التوقد والانتباهة والتيقظ في أرجائها، بدعوة للثورة والتمرد باستخدام متوالية أفعال الأمر: ثوري، انزعي، اعصفي، حرروا، انصروا.
فهي هنا تحكي واقع الثورات العربية التي انطلقت قبل نصف عقد من الزمان، والآن نراها تترنح بين طعنات الثورات المضادة والتطرف الداخلي والتدخلات الخارجية.
لتؤكد في خاتمة النص على ارتباط مجد الحاضر الذي أملت بمجد الأندلس الغابر.
• عالجت الشاعرة قضية الشاعرية، مبينة موقفها من الشعر ومعلنة مبدأها وغايتها منه، فهي تكتب عن قصيد غص بالقهر وحمل الهم، وقوافيها باتت في معرض الاستفتاء، وحروف ضادها تخبر باكتوائها وتلظيها. وجاءت قصيدتها " فدا الأشعار " لتحدد ذلك الموقف الشعري لدى الشاعرة.
وهي في موقفها كانت بعيدة عن تجسيد ما اعتاد بعض الشعراء والشاعرات من نرجسية واستعلاء عبر التضخيم والتهويل والتمجيد لشعرهم. فاتسم موقفها من شعرها بعمق الفلسفة النسائية وبروح الشاعرة العربية التي ترنو لعلو الأمة ومجدها.
أسأل المولى أن أكون قد وفقت في إلقاء الضوء على بعض معالم الديوان، وأن أكون اقتربت بالمتلقي من العالم الشعري لشاعرتنا العربية الجليلة أ. نادية بوغرارة.
محمد عبد المجيد الصاوي
غزة _ فلسطين
6 يونية _ حزيران 2015
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة قوادري علي
