أحدث المشاركات
صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 25

الموضوع: لــصّ القـريـة

  1. #1
    مشرف قسم القصة
    مشرف قسم الشعر
    شاعر

    تاريخ التسجيل : May 2011
    المشاركات : 7,009
    المواضيع : 130
    الردود : 7009
    المعدل اليومي : 1.48

    افتراضي لــصّ القـريـة

    - في قريتنا لصّ ..!

    ..هكذا أسرّ "عمران" ممرضُ العيادة الوحيدةِ في القرية حديثه إلى زوجته ، طالباً منها أن تبقي الخبر طيّ الكتمان ، فحسب اولادهما رهبة الامتحاناتِ وعصا ناظـر المدرسة لهم بالمرصاد ..!

    القرية التي تحتضن بين جنباتها ألف نسمة ، ينبجس من بين طياتها عينا ماء ، إحداهما لمختار القرية ،تربض على فوّهتها مضخةٌ حديثة تضخّ ماءً للشرب ، يباعُ لمن أراده صافياً .. والعين الأخرى لوثها حصان الناطور يستقي من مائها الرّعاة ، ومعزة الحاجة "أم حلمي ".. وكثيرٌ من الناس ..

    لم تكن عينا الحاجة "أمّ حلمي" أحسنَ حالاً من عيني ماء القرية .. إحداهما تسحّ دمعاً صافيا وإن ْخالطه ملحُ الألم .. فزوجها غيّبه الموت .. وولدها ابتلعته الغربة.. ، والعينُ الأخرى أصابها الداءُ وبالكاد ترى البصيصَ من النور .. الجيل الكبير من أهل القرية يعرف الحاجة أم حلمي جيداً أكثر من اليافعين .. لطالما مرّت بأصابعها على رقاب أكثرهم.. عند نزول اللوزتين كان العلاج عندها بضغطاتٍ من أصابعها المخضبة بزيت الزيتون مشفوعةً بالبسملة والذكر .. لقد كان علاجها أنجع ، لكنّ الجيل الجديد تحولَ إلى أقراص المضادات الحيوية.. ربما صار ابتلاعُ الأقراص أخفَّ وطئاً من ضغطات أصابع الحاجةِ على رقابهم ..

    عقودُها السبعة تركتْ على وجهها تجاعيدَ تقصّ حكايا سنينَ مجبولة ٍ بالمرارة والفاقة.. ، يعملُ ابنها الوحيد خارج البلادِ منذ عشرة سنين ، وتعيش معها ابنتها يتقاسمان البُؤسَ والبيتَ المكوّن من حجرةٍ وفناء .. وكمْ اشتكت من عقوق ابنها المهاجـر.. كان " حِلمي" يمنيها بعودةٍ ميمونة تختم سفراً لن يطول.. يستقرّ بعدها إلى جوارها في بيتٍ أوسع .. واليوم لا يصلها منه سوى رسائل مكتوبة بحروفٍ ركيكةٍ تحكي فشلَه، وخيبةَ أملها فيه .. لم يعدْ ينصبُّ اهتمامَها سوى على ابنتها..ومعزتها الشهباء.. وسربِ الدجاج ..

    القرية الصغيرة يزورها تيارُ الكهرباء على استحياءٍ لسويعاتٍ تشرذمت ما بين النهار و الليل .. أعمدة الإنارة التي انتصبت على جانبٍ واحد من الطريق الرئيسي االمتعرج تبدو وكأنها تطأطئ خجلاً وسط الظلام ..لكنها تزهو إذا صافحها النور وتغامز بضوئها أشجار السرو الباسقة والمنتشرة بعشوائية، حينها يتراكض الصبيان داخلَ بقعِ ضوءٍ ارتسمتْ على الإسفلت خلفَ كرةٍ من جواربَ قديمةٍ ملتفـّة بعضُها على بعض .. فإذا شدّ النور رحاله انفضّ مرحُ الصغار عنْ لعبةٍ لم تكتمل ، وتراخت ْ ظلمةُ الليل حتى جثمت فوقَ سواد الإسفلت.. وانزوى الكلّ في بيته متحلقين حول مدافئ الحطب يتبادلون الحكايا .. أو متوارين تحت الأغطية انتظاراً لفجرٍ جديد ..

    ملاصَقةً لبيت المختار .. ينتصب عمودُ إنارة متفرّداً.. بدلاً من أن ينيرَ الطريق دارت رقبة مصباحهِ مئةً وثمانينَ درجةً لينير بيته وحظيرة الماشية .. بينما تناثرتْ بيوتُ القرية على جوانب طرقٍ متعرجة ولا يصلها إلا بصيصُ نور .. بيت الحاجة أم حلمي لم يتعرف بعدُ على عداد الكهرباء ولا يزال مصباحُ الزيت مقادًا فيه حتى الآن . . ربما ساعدتْ ظلمة الليل اللصّ اللعين على التسللِ منْ أطراف القرية دون رقيب ..
    ابتدأتْ قصةُ لصّ القرية عندما اشتكـت أمّ حلمي فقدانَ زوجينِ من دجاجاتها ،لأوّلِ وهلةٍ لم يصدق أحدٌ ما ادّعته .. بعضهم قال أنها أخطأت في إحصائها سيـّما وانها تمتلكُ الكثيرَ من الدجاج وأنّ امرأةً عوراءَ مثلَها لا يـُؤخذ منها عدْل.. "عمران" مازحها حينذاك بأنها لم تحسن تربية فراخها وأن دجاجاتها فرّت بعدما وقعتْ في هوى ديكٍ غريب!

    ذلك اللص اللعين أصبح الشغل الشاغل للقرويين هنا ، ينسجون له حكايات لا يصدقها الا العجائز تارة أنه مدسوسٌ من قرية أخرى بسبب نزاع بين المخاتير ، وأنه مسلّح .. وأخرى أنه يسلك أخاديد خطوط المياه .. تلك الأخاديد التي حفرها مقاولٌ منذ سنين خلت، توقف العمل بينما بقيت الحفر فاغرة فاها للميت من الدوابّ ، والمتسللين، ولسيل المياه شتاءً..

    ..واليوم أصبح لصُّ القرية أمراً مسلّماً بـه، فقد سُرق الطقم الذهبي الذي احتفظتْ به لأ كثر من ثلاثين سنة زوجةُ ناظـر المدرسة .. واليوم يحترقُ قلبُ أم حلمي بعدَ أنْ سُرقت معزتها الشهباء ...!

    - ما الذي بقي إذنْ يا ابنتي ..ألأنني امرأةٌ ضعيفة ..
    ..تردّد أم حلمي وهي تقلّب ناظريها في السماء بينما افترش خدّها المخضب بالدمع كفّها المتجعدة..
    - ... سيدركون أن المعزة " معشّرة " – حامل - .... الله لا يبارك فيهم..!

    أحدهم أرسلَ إليها تحذيراً مع الناطور بأن تكفّ عن اتهاماتها .. وإلا سيأخذون عينها الأخرى بعد قطعِ لسانها !

    ليلاً .. الكلّ هنا مترقب ،لا شيء يقطع حبل الصمت إلا نقيق دجاجاتٍ تتقافز.. ونباح كلابٍ ضالة .. وحفيف أوراق شجر عبثت بها رياحُ الخريف ..البعض من أهالي القرية لا يخشون اللصّ .. هم يعللون ذلك بأنْ ليس لديهم ثمّـة شيءٍ يستحق السرقة..لكنهمْ يترقبون حكاية َسطوٍ جديدة تـُـذْكي مدافيءَ الحطب وتذكي حكاياتهم لوقتٍ أطول قبلَ الهجوعِ للنوم ..

    بعد أربعة أسابيع أفزعَ سكانَ القرية صوتُ زخـّـةُ رصاصٍ شقّـت رتابة الليل.. تلتها زخـّةٌ أخرى هي زغرودةٌ مجلجلة .. كانت الزغرودة كفيلةً بأن يعرف أهل القرية مصدرَ إطلاق النار.. إنه بيت المختار فزغرودة زوجته مميزة وهي أشبه ما تكون بصوتِ مثقاب آلـيٍّ متعَب..!

    في الصباح كانَ سكانُ القرية يتناقلون أنّ اللصَّ وقعَ أخيرا في قبضة المختار و أنّ ابناءَه قد قبضوا عليه وأوسعوه ضرباً بعدما تسوّر جدارَ بيتهم.. امتدّ خيطُ الحكايا إلى أبعدَ من ذلك ، فقد أذعنَ اللص وسلّم كاملَ المسروقاتِ بعدما أقرّ بجرائمه قبلَ أن يسلّمَ للحكومة ...

    - "ربي يحفظ المختار ..
    حامي العرض وراعي الدار !" ..
    هكذا هتف الناطور مِنْ على صهوة حصانه العجوز.. جائباً طرقاتِ القرية ..يقلّبُ عينيه في من يؤمّـن على دعائه..أمّـا الذين يكتفون بالصمت فهم مثيرون للبلبلة !

    " عمران" ومعه جمعٌ من سكان القرية توجّهوا إلى بيت المختار لتهنئته تقديراً باسم الأهالي بالإنجـاز الكبير - الإيقاع باللص.

    يسترخي المختار على مقعده الجلديّ العريض وأولادُه من خلفه .. حمرةٌ تعلو وجنتيه ابتهاجاً تحت جفنينِ أثقلهما الخمولُ بينما يلتقمُ فوهـةَ النارجيلة ..اكتفى بهزّ رأسه بعدما استمع لحديثِ الجمعِ من أهل القرية .. لوّح بطرف عصاه كأنما يصوّب على شيءٍ ما ..ويرسم دوائر في الهواء..

    أطلق ضحكةً خفيفةً افترّتْ لها ثغور من حوله دون أن يعرفوا لها سبباً ..

    - لم يكن هناك لصٌّ هذه المرة ..كنا نطلق النارَ فـرحةً بمعزتنا الشهباء .. هلْ تعلمون ..؟ هههه..لقد وضعت ثلاثة جِداء دفعـةً واحدة!!
    وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن

  2. #2
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي

    قصّة بنكهة قرويّة، وأجواء موصوفة بدقّة تجعل القارئ يعيش الحدث
    سرد رائع!
    بوركت
    تقديري وتحيّتي
    (وددت الانتباه لبعض الأخطاء قبل النّشر)

  3. #3
    مشرف قسم القصة
    مشرف قسم الشعر
    شاعر

    تاريخ التسجيل : May 2011
    المشاركات : 7,009
    المواضيع : 130
    الردود : 7009
    المعدل اليومي : 1.48

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كاملة بدارنه مشاهدة المشاركة
    قصّة بنكهة قرويّة، وأجواء موصوفة بدقّة تجعل القارئ يعيش الحدث
    سرد رائع!
    بوركت
    تقديري وتحيّتي
    (وددت الانتباه لبعض الأخطاء قبل النّشر)

    الأخت الأديبة كاملة بدارنة

    أقدر لكم المرور الكريم وما أتحفتم به النص من طيب التعليق..
    اما عن الأخطاء ..فالنص ظل حبيس مفكرتي لشهور عدة .. وتمت مراجعته ولا يمنع ذلك ان أقع في السهو والخطأ..
    ثم عدت للمراجعة بعد تعليقكم فوجت موضعين هما :فحسب أولادهما ، ينصبّ اهتمامُـها ..، وأكون شاكراً إن كان هناك أخطاء أخرى .
    تحياتي .

  4. #4
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,368
    المواضيع : 200
    الردود : 2368
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    سرد جميل ووصف دقيق ،وتتبع محكم للأحداث ، بفنية أدبية كان الحكي يراعي ثقافة الأبطال القرويين وبساطة عيشهم ،
    مهد النص بوصف دقيق للمحيط ،للقرية ، للمهيمن الطاغي " المختار " للمرأة العجوز دون إغفال ملامحها ،تفكيرها ،بل أحزانها وهمومها وفقرها واعتمادها على معزتها الشهباء التي سلبت منها ..
    مع عدم إهمال التفاصيل التي ستخدم الحدث الذي بني على المفاجأة وصدمة القارئ ، فإشاعة القبض على لص القرية ما هو إلا استنتاج غير مبني على دلائل ..
    تشكل في أذهان سكان القرية من طلقة الرصاص التي سمعوها من بيت المختار ..فكانت تأويلاتهم كلها منصبة على قتل لص القرية ،ولكنهم صدموا لما عرفوا أن الفرحة كانت بالمعزة الشهباء التي ولدت له ..
    لقد ترك لنا السارد فجوة لنقارن بين حدث اختفاء معزة العجوز وولادتها في بيت المختار .. ليقودنا نحو تشكيل رؤية جديدة لشخصية المختار ..فهل يستطيعون أن يكتشفوا أن اللص الحقيقي موجود بينهم. قد يعرفون أو يتجاهلون نظرا لقوة المختار وبطشه وتحايله ..
    نص جميل غرف من الواقع الاجتماعي القروي ،كسب جودته في التنقل بين الوصف تارة والسرد مرة أخرى دون الإغراق في نقل الواقع كما هو ،مبتعدا في ذلك عن الواقعية التسجلية القديمة ، نص يغرف من واقعية السلوك والفعل ،والذات ،وتوزع الأقوال ،والإشاعة التي خلقت البلبلة والفوضى الفكرية في الناس ،بينما نجد المختار وأبنائه يعيشون في أمان وعدم الخوض في حكاية لص القرية ..
    حكاية قد لا ينفرد بها مجتمع قروي دون غيره ، فهي مشتركة بين المجتمعات القروية في كل الأزمان والأماكن ،لكن ما يميز هذا النص الجميل هو قوة الدفقة الحكائية وكيفية التعامل مع الحدث بلغة جميلة وأسلوب شيق لتقديم الحدث ..
    شدني النص بقوته وصرامة تسيير دفة السرد وتحويله من حدث قد يبدو تافها للبعض إلى حدث له دلالات قيمة على المستوى الاجتماعي للقرويين ،بحيث لا يخلو من أناس مغلوبين وأناس طغاة ..
    محبتي وتقديري أخي المبدع المتالق عبد السلام ..

  5. #5
    الصورة الرمزية وفاء الحسني قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : May 2015
    المشاركات : 158
    المواضيع : 11
    الردود : 158
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    مساء الخير ..

    للقصة مساحة كبيرة تتجاوز حدود تلك القرية ..
    فكرة النص اشتركت مع اللص في سرقة المتلقي حتى آخر حرف..
    السرد أكثر من جميل
    قاموسك ممتاز.. لقطات ممتعه ..ألوانك شاعريه

    استمتعت بالقراءة لك

    تحية واحترام
    https://www.facebook.com/profile.php?id=100009429438817

  6. #6
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Feb 2015
    المشاركات : 1,269
    المواضيع : 38
    الردود : 1269
    المعدل اليومي : 0.38

    افتراضي

    قرأتها أكثر من مرة ..و في كل مرة يستعصي علي القلم ،

    امتزاج الوصف و الغموض و الكوميديا الراقية في نصك أستاذي الفاضل له تفرده ..

    جاءت الخاتمة قوية فمن توقعوا أنه البطل الهمام كان هو اللص الذي يبحثون عنه ..

    راقت لي جدا ..

    دمت و دام قلمك الباذخ بالرصانة ..

    تحاياي.
    كـلُّ الـشموس تـجمّعتْ فـي فُـلْكهِ
    ويَرانِيَ الشمسَ الوَحيدةَ في سَماهْ

  7. #7
    الصورة الرمزية علاء سعد حسن أديب
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 468
    المواضيع : 50
    الردود : 468
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    سيدي عبد السلام دغمش

    بمجرد رؤيتي لعنوان النص "لص القرية" وكاتب النص "عبد السلام دغمش"
    كنت على يقين انني على موعد مع المتعة

    السؤال هو من أين تأتي أو من أين يأتي كل هذا القدر الكبير والجميل من المتعة؟

    النص رغم طوله ليس فيه اي ترهل أو اشعار للقارئ بالملل .. بل الهث كقارئ خلف الاحداث..

    دقة في رسم اجواء القرية وسكانها وظلامها وفقرها وطبيعة الناس فيها والظلم المنتشر في ثناياها تارة بلي رقبة عامود الانارة الى بيت المختار وتارة الى افعال الناطور ..

    مفارقة رائعة وغير متوقعة في النهاية لا تكتفي فقط برسم البسمة على شفاه القارئ.. وإنما تحمل كل معاني الاسقاطات "السيواجتماعية " ان جاز لي استخدام هذا الاصطلاح..

    نص عميق وجميل ربما نبعت متعته الاساسية من تمكن بليغ وانيق من اللغة معجما والتوظيف والسرد في سلاسة وانسيابية تتناسب اطرادا مع السهولة واليسر..

    غاية الامتنان لنصك الكريم
    هل تكفيني كلمة أحبك وأنا أقتات على حبك!روحي تحيا بحبك،قلبي يدق به، حياتي لحبك

  8. #8
    مشرف قسم القصة
    مشرف قسم الشعر
    شاعر

    تاريخ التسجيل : May 2011
    المشاركات : 7,009
    المواضيع : 130
    الردود : 7009
    المعدل اليومي : 1.48

    افتراضي

    أعيد نشر النصّ بعد استدراك بعض الأخطاء شاكرا تنبيه الأخت كاملة بدارنة .



    - في قريتنا لصّ ..!

    ..هكذا أسرّ "عمران" ممرضُ العيادة الوحيدةِ في القرية حديثه إلى زوجته ، طالباً منها أن تبقي الخبر طيّ الكتمان ، فحسب أولادهما رهبة الامتحاناتِ وعصا ناظـر المدرسة لهم بالمرصاد ..!

    القرية التي تحتضن بين جنباتها ألف نسمة ، تنبجس من بين طياتها عينا ماء ، إحداهما لمختار القرية ،تربض على فوّهتها مضخةٌ حديثة تضخّ ماءً للشرب ، يباعُ لمن أراده صافياً .. والعين الأخرى لوثها حصان الناطور يستقي من مائها الرّعاة ، ومعزة الحاجة "أم حلمي ".. وكثيرٌ من الناس ..

    لم تكن عينا الحاجة "أمّ حلمي" أحسنَ حالاً من عيني ماء القرية .. إحداهما تسحّ دمعاً صافيا وإن ْخالطه ملحُ الألم .. فزوجها غيّبه الموت .. وولدها ابتلعته الغربة.. ، والعينُ الأخرى أصابها الداءُ وبالكاد ترى البصيصَ من النور .. الجيل الكبير من أهل القرية يعرف الحاجة أم حلمي جيداً أكثر من اليافعين .. لطالما مرّت بأصابعها على رقاب أكثرهم.. عند نزول اللوزتين كان العلاج عندها بضغطاتٍ من أصابعها المخضبة بزيت الزيتون مشفوعةً بالبسملة والذكر .. لقد كان علاجها أنجع ، لكنّ الجيل الجديد تحولَ إلى أقراص المضادات الحيوية.. ربما صار ابتلاعُ الأقراص أخفَّ وطئاً من ضغطات أصابع الحاجةِ على رقابهم ..

    عقودُها السبعة تركتْ على وجهها تجاعيدَ تقصّ حكايات سنينَ مجبولة ٍ بالمرارة والفاقة.. ، يعملُ ابنها الوحيد خارج البلادِ منذ عشر سنين ، وتعيش معها ابنتها تتقاسمان البُؤسَ والبيتَ المكوّن من حجرةٍ وفناء .. وكمْ اشتكت من عقوق ابنها المهاجـر.. كان " حِلمي" يمنيها بعودةٍ ميمونة تختم سفراً لن يطول.. يستقرّ بعدها إلى جوارها في بيتٍ أوسع .. واليوم لا يصلها منه سوى رسائل مكتوبة بحروفٍ ركيكةٍ تحكي فشلَه، وخيبةَ أملها فيه .. لم يعدْ ينصبُّ اهتمامُها سوى على ابنتها..ومعزتها الشهباء.. وسربِ الدجاج ..

    القرية الصغيرة يزورها تيارُ الكهرباء على استحياءٍ لسويعاتٍ تشرذمت ما بين النهار و الليل .. أعمدة الإنارة التي انتصبت على جانبٍ واحد من الطريق الرئيسي المتعرج تبدو وكأنها تطأطئ خجلاً وسط الظلام ..لكنها تزهو إذا صافحها النور وتغامز بضوئها أشجار السرو الباسقة والمنتشرة بعشوائية، حينها يتراكض الصبيان داخلَ بقعِ ضوءٍ ارتسمتْ على الإسفلت خلفَ كرةٍ من جواربَ قديمةٍ ملتفٌّ بعضُها على بعض .. فإذا شدّ النورُ رحاله انفضّ مرحُ الصغار عنْ لعبةٍ لم تكتمل ، وتراخت ْ ظلمةُ الليل حتى جثمت فوقَ سواد الإسفلت.. وانزوى الكلّ في بيته متحلقين حولَ مدافئ الحطبِ يتبادلون الحكايات .. أو متوارين تحت الأغطية انتظاراً لفجرٍ جديد ..

    ملاصَقةً لبيت المختار .. ينتصب عمودُ إنارةٍ متفرّداً.. بدلاً من أن ينيرَ الطريق دارت رقبة مصباحهِ مئةً وثمانينَ درجةً لينير البيتَ وحظيرة الماشية .. بينما تناثرتْ بيوتُ القرية على جوانب طرقٍ متعرجة ولا يصلها إلا بصيصُ نور .. بيت الحاجة أم حلمي لم يتعرف بعدُ على عداد الكهرباء ولا يزال مصباحُ الزيت موقدًا فيه حتى الآن . . ربما ساعدتْ ظلمةُ الليل اللصَّ اللعينَ على التسللِ منْ أطرافِ القرية دون رقيب ..
    ابتدأتْ قصةُ لصّ القرية عندما اشتكـت أمّ حلمي فقدانَ زوجينِ من دجاجاتها ،لأوّلِ وهلةٍ لم يصدق أحدٌ ما ادّعته .. بعضهم قال أنها أخطأت في إحصائها سيـّما وانها تمتلكُ الكثيرَ من الدجاج وأنّ امرأةً عوراءَ مثلَها لا يـُؤخذ منها عدْل.. "عمران" مازحها حينذاك بأنها لم تحسن تربية فراخها وأن دجاجاتها فرّت بعدما وقعتْ في هوى ديكٍ غريب!

    ذلك اللص اللعين أصبحَ الشغلَ الشاغلَ للقرويين هنا ، ينسجون له حكاياتٍ لا يصدقها الا العجائز تارة أنه مدسوسٌ من قرية أخرى بسبب نزاع بين المخاتير ، وأنه مسلّح .. وأخرى أنه يسلك أخاديد خطوط المياه .. تلك الأخاديد التي حفرها مقاولٌ منذ سنين خلت، توقف العمل بينما بقيت الحفر فاغرة فاها للميت من الدوابّ ، والمتسللين، ولسيل المياه شتاءً..

    ..واليوم أصبح لصُّ القرية أمراً مسلّماً بـه، فقد سُرق الطقم الذهبي الذي احتفظتْ به لأ كثر من ثلاثين سنة زوجةُ ناظـر المدرسة .. واليوم يحترقُ قلبُ أم حلمي بعدَ أنْ سُرقت معزتها الشهباء ...!

    - ما الذي بقي إذنْ يا ابنتي ..ألأنني امرأةٌ ضعيفة ..
    ..تردّد أم حلمي وهي تقلّب ناظريها في السماء بينما افترش خدّها المخضب بالدمع كفّها المتجعدة..
    - ... سيدركون أن المعزة " معشّرة " – حامل - .... الله لا يبارك فيهم..!

    أحدهم أرسلَ إليها تحذيراً مع الناطور بأن تكفّ عن اتهاماتها .. وإلا سيأخذونَ عينها الأخرى بعد قطعِ لسانها !

    ليلاً .. الكلّ هنا مترقب ،لا شيء يقطعُ حبلَ الصمت إلا نقيق دجاجاتٍ تتقافز.. ونباح كلابٍ ضالة .. وحفيف أوراق شجر عبثت بها رياحُ الخريف ..البعض من أهالي القرية لا يخشون اللصّ .. هم يعللون ذلك بأنْ ليس لديهم ثمّـة شيءٍ يستحق السرقة..لكنهمْ يترقبون حكاية َسطوٍ جديدة تـُـذْكي مدافئَ الحطب وتذكي حكاياتهم لوقتٍ أطول قبلَ الهجوعِ للنوم ..

    بعد أربعة أسابيع أفزعَ سكانَ القرية صوتُ زخـّـةِ رصاصٍ شقّـت رتابة الليل.. تلتها زخـّةٌ أخرى هي زغرودةٌ مجلجلة .. كانت الزغرودةُ كفيلةً بأن يعرف أهلُ القرية مصدرَ إطلاق النار.. إنه بيتُ المختار فزغرودة زوجته مميزةٌ وهي أشبه ما تكون بصوتِ مثقابٍ آلـيٍّ متعَب..!

    في الصباح كانَ سكانُ القرية يتناقلون أنّ اللصَّ وقعَ أخيرا في قبضة المختار و أنّ ابناءَه قد قبضوا عليه وأوسعوه ضرباً بعدما تسوّر جدارَ بيتهم.. امتدّ خيطُ الحكايا إلى أبعدَ من ذلك ، فقد أذعنَ اللص وسلّم كاملَ المسروقاتِ بعدما أقرّ بجرائمه قبلَ أن يسلّمَ للحكومة ...

    - "ربي يحفظ المختار ..
    حامي العرض وراعي الدار !" ..
    هكذا هتف الناطور مِنْ على صهوة حصانه العجوز.. جائباً طرقاتِ القرية ..يقلّبُ عينيه في من يؤمّـن على دعائه..أمّـا الذين يكتفون بالصمت فهم مثيرون للبلبلة !

    " عمران" ومعه جمعٌ من سكان القرية توجّهوا إلى بيت المختار لتهنئته تقديراً باسم الأهالي بالإنجـاز الكبير - الإيقاع باللص.

    يسترخي المختار على مقعده الجلديّ العريض ، وأولادُه من خلفه .. حمرةٌ تعلو وجنتيه ابتهاجاً تحت جفنينِ أثقلهما الخمولُ بينما يلتقمُ فوهـةَ النارجيلة ..اكتفى بهزّ رأسه بعدما استمع لحديثِ الجمعِ من أهل القرية .. لوّحَ بطرفِ عصاه كأنما يصوّب على شيءٍ ما ..ويرسمُ دوائر في الهواء..

    أطلقَ ضحكةً خفيفةً افترّتْ لها ثغور من حوله دون أن يعرفوا لها سببًا..

    - لم يكن هناك لصٌّ هذه المرة ..كنا نطلق النارَ فـرحةً بمعزتنا الشهباء .. هلْ تعلمون ..؟ هههه..لقد وضعت ثلاثة جِداء دفعـةً واحدة!!

  9. #9
    مشرف قسم القصة
    مشرف قسم الشعر
    شاعر

    تاريخ التسجيل : May 2011
    المشاركات : 7,009
    المواضيع : 130
    الردود : 7009
    المعدل اليومي : 1.48

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الفرحان بوعزة مشاهدة المشاركة
    سرد جميل ووصف دقيق ،وتتبع محكم للأحداث ، بفنية أدبية كان الحكي يراعي ثقافة الأبطال القرويين وبساطة عيشهم ،
    مهد النص بوصف دقيق للمحيط ،للقرية ، للمهيمن الطاغي " المختار " للمرأة العجوز دون إغفال ملامحها ،تفكيرها ،بل أحزانها وهمومها وفقرها واعتمادها على معزتها الشهباء التي سلبت منها ..
    مع عدم إهمال التفاصيل التي ستخدم الحدث الذي بني على المفاجأة وصدمة القارئ ، فإشاعة القبض على لص القرية ما هو إلا استنتاج غير مبني على دلائل ..
    تشكل في أذهان سكان القرية من طلقة الرصاص التي سمعوها من بيت المختار ..فكانت تأويلاتهم كلها منصبة على قتل لص القرية ،ولكنهم صدموا لما عرفوا أن الفرحة كانت بالمعزة الشهباء التي ولدت له ..
    لقد ترك لنا السارد فجوة لنقارن بين حدث اختفاء معزة العجوز وولادتها في بيت المختار .. ليقودنا نحو تشكيل رؤية جديدة لشخصية المختار ..فهل يستطيعون أن يكتشفوا أن اللص الحقيقي موجود بينهم. قد يعرفون أو يتجاهلون نظرا لقوة المختار وبطشه وتحايله ..
    نص جميل غرف من الواقع الاجتماعي القروي ،كسب جودته في التنقل بين الوصف تارة والسرد مرة أخرى دون الإغراق في نقل الواقع كما هو ،مبتعدا في ذلك عن الواقعية التسجلية القديمة ، نص يغرف من واقعية السلوك والفعل ،والذات ،وتوزع الأقوال ،والإشاعة التي خلقت البلبلة والفوضى الفكرية في الناس ،بينما نجد المختار وأبنائه يعيشون في أمان وعدم الخوض في حكاية لص القرية ..
    حكاية قد لا ينفرد بها مجتمع قروي دون غيره ، فهي مشتركة بين المجتمعات القروية في كل الأزمان والأماكن ،لكن ما يميز هذا النص الجميل هو قوة الدفقة الحكائية وكيفية التعامل مع الحدث بلغة جميلة وأسلوب شيق لتقديم الحدث ..
    شدني النص بقوته وصرامة تسيير دفة السرد وتحويله من حدث قد يبدو تافها للبعض إلى حدث له دلالات قيمة على المستوى الاجتماعي للقرويين ،بحيث لا يخلو من أناس مغلوبين وأناس طغاة ..
    محبتي وتقديري أخي المبدع المتالق عبد السلام ..

    الأخ الاديب الغرحان بو عزة

    ممتنّ اخي لهذه القراءة النافذة ..وأشكر لك جميل تعليقك وطيب تشجيعك ..وهذا بعض مما عندكم ..
    مع خالص مودتي .

  10. #10
    مشرف قسم القصة
    مشرف قسم الشعر
    شاعر

    تاريخ التسجيل : May 2011
    المشاركات : 7,009
    المواضيع : 130
    الردود : 7009
    المعدل اليومي : 1.48

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة وفاء الحسني مشاهدة المشاركة
    مساء الخير ..

    للقصة مساحة كبيرة تتجاوز حدود تلك القرية ..
    فكرة النص اشتركت مع اللص في سرقة المتلقي حتى آخر حرف..
    السرد أكثر من جميل
    قاموسك ممتاز.. لقطات ممتعه ..ألوانك شاعريه

    استمتعت بالقراءة لك

    تحية واحترام
    الأخت وفاء الحسني

    شكراً لطيب القراءة وجميل المرور ..
    تحياتي .

صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة