- سأخلد إلى بعض النوم
- كما تريد يا حبيبي
جلّل نصفه العلوي حتى كتفيه بالدثار الخشن، أغمض عينيه، فيما لبثت هي تتأمل في مشهد امتزاج السماء بالبحر، يلفحها الهواء.
- على جماله، ليس كمثل هواء الشام
التفتت إلى زملائها في المركب ، بين مهموم ومكتئب، وبين قلقة ومتمتمة بالأذكار، وبين أطفال يلعبون كأنهم بلهوهم في شغل شاغل عما هم فيه
- ما أعذب براءتهم ، وحدها تهزم الرزايا
قالت لنفسها وعيناها معلقتان بالفتاة الشقراء ذات الأعوام الخمس وهي تعبث برابطة شعرها، ثم التفتت إلى أمها فتبادلتا الابتسام.
وفيما تجيل نظرها راعها مشهده
يبدو في العقد الخامس من عمره، أشوه الوجه سميناً، يدخّن بشراهة مركّزاً نظره عليها، يفّصل جسدها تفصيلاً، عيناه تمعنان في الفسق حتى لتكادان تبادرانها بطلب الفحشاء.
التفتت عنه في نزق:
- قاتلك الله، أفي هذه الحال تفرغ نفسه لمثل هذا ؟؟!!
وضعت يدها تحت إبط زوجها، وحدجت ذاك بنظرة مملوءة تتهديداً وصداً، فما بدّل من حاله شيئاً.تشاغلتْ عنه بأن أغرقتْ في تأملها بزرقة البحر:
- آه لو تغمرني بعيداً عن سردايب الحظوظ الزائغة، لقد عانينا كثيراً حتى وصلنا إلى هنا، ونحن كذلك في بداية الطريق لا نعلم بم ستلقي إلينا التطورات.
اقتربت من زوجها، غمرته بنظرة حنان، وضعت كفها على كفه، سريعاً تسربت إليها عدوى النعاس.
فتحت عينيها فجأة لترى الاضطراب يغمر كل ما حولها ومن حولها.
الأطفال يصرخون، النسوة مرتبكات بعضهم يبكين وبعضهن يجأرن بالدعاء، الرجال متخبطون بين مضطربين غير قادرين على التصرف، وبين مسؤولي المركب المحاولين البحث عن وسيلة للإنجاد.
راعها الأمر، استغرقت دقيقة حتى أدركت ما هي فيه، التفتت إلى زوجها فوجدته يفتح عينيه وما يزال عقله غارقاً في لذة النوم.
- انظر ما حلّ بنا
غشيها الاضطراب ، احمرت وجنتاها واغرورقت عيناها بالدموع ، فيما نهض زوجها واقفاً وصاح:
- ما نفعل يا جماعة؟
صاح به من بعيد أحد مسؤولي القارب:
- اخرس وكل .... ألا ترانا مشغولين حائرين في امرنا؟
- ألا يمكنكم الاستجارة بخفر السواحل؟
- قلت لك كل .....
قرصته إحدى الجالسات قريباً منه:
- قد اتصلوا بهم مراراً ولا مجيب
- والعمل ؟
- العمل عمل ربنا
هالته سكينتها، نظر إليها فرآها ممسكة سبحتها بيديها وغارقة في تمتماتها.اهتز القارب بعنف ، مال تماماً إلى أحد جانبيه.
تمسكت زوجه بعضده، فشد على كفها بعزم قلِق.
صاح من بعيد أحد المسؤولين :
- إن وقعتم في الماء فحافظوا على دواليب النجاة على خصوركم ، لا منجى لكم إلا بها.
صاح أحد الركاب :
- وما ستفعل لنا ونحن في عرض البحر؟
قطع الكلام اهتزاز القارب بشدة، مال أكثره، وراح الركاب على طرفه يسّاقطون في الماء.
احتضنت زوجها بشدة، وأغمضت عينيها،فيما تمسّكهو بحرف القارب، وهيأ نفسه لما سيكون من أمره إذا ما بات في الماء.
مال القارب بهما وبمن لا يزالون فيه،كرّر المسؤولون صيحاتهم:
حافظوا على دواليب النجاة
لحظة غمرتهمامن الشتات واختلاط كل شيء في عينيهما.
لقيا نفسيهما فجأة في الماء.
- حافظي على هدوئك ،تمسكي بي
- رباه ...... ما كان يجبرنا على هذا المر؟؟- سأسبح وأنت ابقي ملتصقة بي
- أيعقل أن لا يمدة لنا أحد يد الإنقاذ؟
- سنعمل على أنه لا أحد، فإن أتى المنقذون كان فرج ورحمة
حانت منها التفاتة ، لقيت الرجل المدخن الأشوه ما يزال على القارب مع من تبقى من مسؤوليه، نظراته ما تزال تمعن في الشر ، وقبحه كأنما ازداد ، غشيها الخوف منه على ما باتت عليه من بعد المسافة عنه.
- اذكري الله عسى أن ينجينا
راح زوجها يخترق طريقه البحري سباحة كما أكثر أهل المركب الذين باتوا في الماء ، وهي تردد أذكارها عادت بها الذكرى إلى أيام استحفظت تلك الأدعية بمعونة جدتها في بيتهم القروي القديم، يومها قالت لها:
- هذه الأوراد تفك كل كرب، وتصرف كل مكروه، عسى ألا تقعي في مكروه يا حبيبتي
راحت صور القرية، والجدة، والأم والأخوات، وملاعب الطفولة تنهمر على ذهنها انهماراً قاسياً حتى شلته.
ذرفت دمعتين حراوين على وجنيتها، اختلج صدرها حتى راح يهتز، وبصوت ملؤه الأسى ويقارب النواح اصاعدت العبارة من أعماق صدرها:
- آآآآآآآآآآآآه يا ستي.