هل تشعر معى بالدوار والحيرة وعدم الاستقرار وفقدان البوصلة ؟
هذا لأن مصر " الوطن " تعانى من ذلك ، وما تعانيه ينعكس تلقائياً علينا .
حتى نتمكن من ناصية القضية وأساسها وجذورها وأصلها قبل أى شئ لابد أن نستمع الى تشخيص الرائع جمال حمدان واجابته على سؤالنا " لماذا تصاب مصر ونصاب معها بالدوار وفقدان الوجهة " ؟
استمعوا :
من كتاب " نحن وأبعادنا الأربعة " للراحل الكبير جمال حمدان رحمه الله يقول : " مصر لها بعدان أساسيان هما البعد الافريقى والبعد الآسيوى ، وكل منهما ساهم فى تكوين شخصيتها وتحديد لونها بنسبة معينة ؛ فالبعد الافريقى أمدنا بالحياة – بالماء والسكان – ولكن البعد الآسيوى أمدنا بالحضارة – بالثقافة والدين منذ العرب – وحتى فى العصر الحديث وفى الجانب السياسى تمثل البعدان فى حركات الوحدة السياسية التى دخلتها مصر مع السودان أولاً ثم سوريا بعد ذلك " .
يقول هذا العقل العبقرى : " هكذا تتحد لنا فى المحصلة العامة أبعاد أربعة فى توجيه مصر ؛ الآسيوى والافريقى على مستوى القارات والنيلى والمتوسطى على المستوى الاقليمى " .
يقول : " الأبعاد الأربعة تتداخل مع الاطار العربى الكبير بيد أن الاطار العربى ليس مجرد بعد توجيهى أو اشعاعى وانما هو خامة الجسم وكيان جوهر فى ذاته ، هو الجسم حيث الأبعاد هى الأطراف ، هو الوجه وهى الوجهة ، هو الهوية وهى هوائيات الارسال والاستقبال ؛ بوضوح أكثر : العروبة وجود ولكن الأبعاد توجهه ، ان كانت الأبعاد هى اتجاهات البوصلة فان الأساس العربى هو جسم البوصلة ذاته ، وفى كل الحالات فان العروبة وحدها هى دائرة الانتماء وكل ما عداها فدوائر علاقات " .
وعن البعد الاسلامى قال : مصر كانت دائماً طرفاً فى قصة التوحيد بفصولها الثلاثة ، فالكثير من حضارة افريقيا هى جزئياً من حضارة مصر ، ومعظم اسلام القارة مر من هنا .. قصة التوحيد بدورها لا تفهم فى كل مراحلها الا بذكر مصر
وتحدث عن البعد الأوربى وأهميته وعن قوة الروابط التى تجمعنا بأوربا بل جعلها الأقرب الينا تاريخياً وحضارياً وسياسياً بل وجنسياً من افريقياً وتوطيد الصلات بها على طريق الدولة العصرية الحديثة المتقدمة أمر ضرورى .
ومع تلك الأبعاد القارية وحركة الجغرافيا والتاريخ يؤكد أن مصر لم تصب ولا ينبغى لها قط أن تصاب بدوار جغرافى .
لماذا ؟
ببساطة لأنها مركز الدائرة وقطب الرحى ، وهذه الأبعاد تتعدد فى شخصيتها دون أن تتعارض وتتكامل دون أن تتناقض ؛ ففيما عدا الانتماء القومى العربى فنحن مصريون قبل أن نكون افريقيين أو آسيويين أو أوربيين ، ولكننا بعد هذا والى حد معلوم أوربيون أكثر منا آسويون وآسيويون أكثر منا افريقيون ، نحن مصريون أساساً ، ولكننا بعد هذا أوربيون أولاً ، آسيويون ثانياً ، افريقيون ثالثاً ؛ فنحن فى افريقيا ولسنا منها ومن أوربا ولسنا فيها ولسنا فى آسيا ولا منها ولكننا اليها؛ ذلك أننا فى افريقيا بالجغرافيا والأرض الى أبعد حد ومن أوربا بالجنس والحضارة الى حد بعيد والى آسيا بالتاريخ والثقافة الى حد آخر .
بين هذه الأبعاد فان مصر هى البوصلة القائدة وبالتالى هى الفيصل النهائى ، وهناك البعض من يريد أن يدفعها الى هذا الاتجاه أو ذاك لكنها هى وحدها التى تعرف أو ينبغى أن تعرف طريقها جيداً كما تعرف مصلحتها دون حيرة أو تمزق بين هذه الاتجاهات والضغوط .
الخلاصة :
مفتاح الموقف كله فى كلمة واحدة هو " الانتماء " ؛ الانتماء القومى ضد الأبعاد الاقليمية ، أجل فمقياس الأشياء جميعاً بين أبعادنا الأربعة هو انتماؤنا القومى ، أى الجسم والكيان نفسه مقابل وقبل وبعد أبعاده وامتداداته وبذلك ما يعنى ويرادف العروبة على الفور فالقومية والانتماء القومى هو وحده الذى يحفظ توازننا بين أبعادنا المتباينة ويمنع عنا الاصابة بالدوار الجغرافى بينها ، باختصار الانتماء القومى والقومية قبل الأبعاد وبعدها بين الأبعاد وضدها ، ذلك هو المصل المضاد لخطر الدوار الجغرافى فى قلب العالم .
العروبة اذاً .. الانتماء القومى .. الأمة العربية .. هو الذى يحفظ توازننا ورسوخنا على الأرض وهو الذى يمكننا من القيام بدورنا الاسلامى وحماية مقدساتنا وحضارتنا ووجودنا ، وهو الذى يمكننا من القيام بدورنا الآسيوى والافريقى والأوربى .. فاذا فقدنا العروبة أصبنا بالدوار وفقدنا توازننا ، فلن نتمكن من القيام بشئ من ذلك .