كتبت مقالاً بعد التصويت على الإستفتاء تحت عنوان " محجبة ترقص " حيث رقصت إحدى المحجبات المصريات فى الشارع وحولها أخريات – منهن محجبات – يصفقن ويغنين ويشجعنها .
والآن نحن بصدد محجبة أخرى تغنى وتفوز بالمركز الأول فى برنامج مسابقات غنائى شهير وهى الأردنية نداء شرارة .
نحن بصدد حالة لا يمكن إجتزاءها من مشهد الأحداث ؛ فالمرأة إرتبطت بقوة بتفاصيل الصراع السياسى منذ 2011م إلى اليوم ، وإذا إختصرنا التفاصيل فى لقطات سريعة ؛ فسنرى حجاب أول مذيعة تظهرعلى التلفزيون بما عده الإسلاميون إنجازاً على خلفية منع نظام مبارك له وملاحقته فى وسائل الإعلام ، فى محاولة من النظام الأسبق لإحراز نصر وهمى للتيار العلمانى على الإسلاميين بإظهار أن السائد فى المجتمع هو " السفور " لتحجيم الخصم الإسلامى سياسياً .
ثم زوجة الدكتور محمد مرسى المُحجبة ، وكانت رمزية دخولها القصر الجمهورى خلفاً لسوزان مبارك مؤثرة بسبب موقف الأخيرة المتشدد من الحجاب ، كأنه إنتقام " سياسى " من سنوات التهميش والإقصاء – وأحياناً الإزدراء - ، وعمد الإسلاميون لطرح القضية بهذا الشكل الثأرى .. وهو فى حقيقته توظيف سياسى مضاد لقضية الحجاب .
ثم سلوك القيادات الإسلامية مع المذيعات غير المحجبات ورفض الظهور معهن فى الإستديو إلا من وراء حجاب ، وسلوكهم مع المرشحات على قوائمهم الإنتخابية ووضع " وردة " بديلاً عن صورة المرشحة ! مروراً بإستهداف النقاب والحجاب فى الشارع كرمز سياسى معبر عن تيار بعينه بعد حشد الإسلاميين للمرأة وتوظيفها بصورة لافتة فى الفعاليات ، ومروراً بهذه الرقصات من مُحجبات فى الشارع بعد التصويت على أنغام " تسلم الأيادى " ومروراً بتوظيف داعش والتنظيمات المسلحة للمرأة لجعل تنظيماتهم مثار جذب للأعضاء الجدد من مختلف بلاد العالم من راغبى النفوذ والتسلط الرجولى وحوزة القدر الأكبر من " السبايا " و " الجوارى " و " الإماء " .. وإنتهاءاً بمشهد نداء شرارة المحجبة التى تواجه جمهور العالم بحجابها وصوتها الذى ينشد القصائد والأغنيات الرومانسية القديمة !
لمقاربة هذه الحالة المتداخلة المُدهشة نستطيع وضع مجموعة من الملاحظات التى تصلح منطلقاً لنقاش مستفيض .
الصراع سياسى فى المقام الأول ؛ فهناك تياران يتنازعان تمثيل الدولة والتعبير عن هويتها والسيطرة على مقاليد سلطتها ، ولا شك أن المرأة كانت - وستظل - من أهم العناصر التى وظفها الجميع لإحراز التفوق ، ويبدو أن هناك مبالغات وتجاوزات خطيرة حدثت من الطرفين أضرت بالمرأة ذاتها وبصورتها ومكانتها فى المجتمع ، ونظرة الآخرين إليها فى الشارع وطريقة التعامل معها ، فى حين لا يعبر الزى والمظهر فى أغلب الأحوال عن الإنتماء السياسى ؛ فقد تكون امرأة محجبة وغير منتمية ولا متعاطفة مع التيار الإسلامى والعكس صحيح .. وقد تكون محجبة وقناعاتها الفكرية والسياسية مختلفة تماماً ومتقاطعة مع قناعات الفصائل الإسلامية المتنوعة .
التوظيف السياسى أضر بالمرأة العربية على وجه العموم ؛ فغالبية نساء العرب غير الملتزمات بالحجاب الذى يدعو إليه الإسلاميون لم يستحققن هذه النظرة المتدنية كأن كل غير محجبة فهى غير شريفة – كما يتوهم كثيرون من الإسلاميين - أو سيئة السلوك ومعاملتها بندية كخصمة وعدوة وإستهدافها بالوعظ والإستعلاء والنظرة الفوقية وربما الإساءة .
فى المقابل النظر إلى المحجبة على أنها عضوة فى تنظيم أو جماعة أو أنها متشددة الفكر من قبل التيارات الأخرى ، وكل ذلك أتى على خلفية تحويل القضية إلى صراع سياسى ؛ حيث صارَ تكثير غير المحجبات فى الإعلام ومنع المحجبات إنتصاراً لتيار بعينه ، وصارَ حشد المحجبات فى أية فعالية إثباتاً لقوة التيار الإسلامى ، دون الإهتمام بجوهر القضايا وخلفياتها ؛ فكثير من غير المحجبات لسن على دراية كاملة بتجاذبات المشهد وصراع الفكر والأيديولوجيا ويرتدين ما يرتدينه كتقليد أو فعل السائد فى محيطهن ، وكثير منهن يؤدين فروض الإسلام ويلتزمن بمبادئه وفق قناعات خاصة ليست بالضرورة توافق قناعات بعض المتشددين ، فضلاً عن أن بعض المحجبات يفتقدن للتربية الإسلامية المتكاملة وقد يصدر عنهن تصرفات تناقض مظهرهن .
هناك خلط معيب للصق الحجاب بالتخلف تأثراً بتجربة الغرب فى العصور الوسطى عندما أدى فرض نمط معين من السلوك والمظهر بالإجبار إلى التخلف ، بينما إرتبطت هذه الحالة لدى المسلمين والعرب فى العصر الوسيط بالتقدم والإزدهار .. فلا إرتباط اذاً بين التدين ومظاهره والتخلف والرجعية .
على الجانب الآخر هناك فهم خاطئ لدى السواد الأعظم فى الحركة الإسلامية لإشكالية الشريعة والحرية ؛ فالحجاب كجزئية ليس قانوناً يستطيع الحاكم أو جهة ما فرضه على الشعب - لأن المجتمع لا مُكرِه له – لكنه وغيره نظام تختاره الأمة وتطبقه وتكسبه الشرعية ، وليس من الشريعة فى شئ أن تتدخل حكومات فى خصوصيات الناس بإسم الدين فى أمور تركها الإسلام لضمير الفرد مثل العقائد والعبادات والسلوكيات التى لا تضر بالآخرين ، وهذا ما يجعل الشريعة الإسلامية مختلفة عن الكهنوت الغربى الذى كان حِكراً على فئة تكتسب منه حقاً إلهياً للحكم على الآخرين .
نحن بصدد تفسير المشهد ومحاولة تقصى خلفياته لا تبريره ، وقد وظفه إعلاميون للمكايدة السياسية أيضاً بإعتبارها فرحة لا شعورية كفرحة المرأة المحجبة يوم زفاف إبنتها ، لكننى أراها ردة فعل طبيعية من المرأة العربية عموماً ، ترفض بها هذا التوظيف السياسى وتعترض على المتاجرة بها وبحجابها أو مظهرها فى سوق الصراعات السياسية .
إندهش الكثيرون عند رؤيتهم لإمرأة محجبة خمسينية ترقص ولمشهد نداء شرارة المحجبة وهى تغنى ، لكن من العجيب إنعدام الدهشة من واقع ومواقف تيارات " راقصت " المرأة وعرضتها – على إختلاف الأنماط – وتغنت بها فى ساحة التوظيف السياسى تحقيقاً لمآرب ومصالح حزبية .
بصرف النظر عن مشروعية ذلك من عدمه – أو عن موقفنا منه - ، لكن تحليل هذا المشهد ؛ هو أن المرأة العربية ضاقت ذرعاً بهذا التوظيف المتبادل الذى لا يعبر فى معظم الأحوال عنها وعن قناعاتها ، وهى تعبر عن ذلك بحالة مُدهشة بالفعل وتبدو متناقضة ؛ فهى ترقص وتغنى وهى محجبة .
هذا تعبير عن ثورة وعن تمرد ، رسالته الرئيسية عنوانها " كفوا عنا وعن المتاجرة بنا ، فأنتم لا تعبرون عنا " .. فضلاً عن الرغبة العارمة فى نفى مشهد السبايا والجوارى فى العراق وسوريا والتحرر حضارياً منه بمشهد مختلف تماماً ويجسد الحالة المناهضة على الجهة المقابلة ؛ بصورة إمرأة محجبة تصعد على المسرح وتقف أمام الكاميرات وتواجه العالم بالغناء .. كأنها تقول " الإسلام ليس جوارى وسبايا ، والمرأة فى الإسلام ليست للبيع والتأجير "