الأخ الحبيب الغالي الشاعر العربي الكبير الدكتور سمير العمري
قرأت القصيدة مرات عدة , وقرأت كل ما قيل , بحق القصيدة والشاعر , وكم حاولت أن أكتب حيال ذلك , فلم أوفق , فالتيار الكهربائي يقطع فجأة وغالبا , دون سابق إنذار , ويضيع علي كل ما كتبت أو كان بذهني , لذلك جئت متأخرا , وأنا كمتابع لشعرك , معجبا متذوقا , أشعر بضرورة الاعتذار عن الكتابة المتأخرة .
لعل هذه القصيدة من أروع ما باح به الشاعر العربي الكبير الدكتور سمير العمري , ابتداء من المطلع الإبداعي , مستخدما جملة من المتناغمات اللفظية النحاسية , ذات الوقع الصارخ :
أَصُـــــدُوعُ الـصَّـقِـيــعِ بَــيْـــنَ الــضُّــلُــوعِ
لتقودنا هذه اللمعة الجرسية العالية , إلى الإحساس والشعور الذي أحسه الشاعر :
أَمْ بَـــقَـــايَــــا فُــــــــــؤَادِيَ الْـــمَــــوْجُــــوعِ
كأننا نسمع صرخة تنبهنا للإحساس بما هو آت , تستصرخنا إلى التفاعل مع الحدث , هكذا هي الحركة الإنسانية , وهذا شكل واقعي , نلمسه في حياتنا , عندما يحدث أمر جلل , مدخل موفق للقصيدة , وليس من المحاباة إذا قلت بل هو مدخل ابداعي موفق , ثم يبدأ عرض سحابات الحزن والأسى , بطريقة حكيمة , تميّز بها معظم شعر العمري , مع الصور الشعرية الألقة :
أَمْ شَــظَــايَــا تَــنَــاثَــرَتْ فِـــــــي الْـحَــنَــايَــا
مِـنْ زُجَـاجِ الْأَمَـانِ فِــي حِـصْـنِ رُوْعِــي
كم هو رائع هذا الربط بين البقايا والشظايا , مرة بشعور السكون , ومرة بشعور الحركية , تصيب الحصن المنيع , مستعرضا قوته النفسية الداخلية , وكأن أراد أن يبين كيف يغلبه الحزن , ثم ينتفض بين الإقرار بالحالة والغضب منها :
لَــــكِ مَـــــا شِــئْـــتِ يَـــــا حَــيَـــاةُ فَــإِنِّـــي
لَــــمْ أَنَــــلْ مِــنْــكِ غَــيْــرَ حُــــزْنٍ مُــرِيـــعٍ
نعم لقد غلبته الحالة , بل ذهب عميقا بالدلالة , مسجلا حكمة شعرية , لمن يعيش أو يحس بالغلبة , ليستشهد بهذا البيت القوي , فعلى الرغم من السلاسة في الأداء , تبهرنا قوة التعبير , ثم يستطرد الشاعر بتوصيف الحالة :
عَـافَـنِــي الـنُّـصْــحُ وَالْــمَــلَامُ فَــمَــا لِــــي
مِــــنْ فَــــمٍ غَــيْــرُ صَـمْـتِــيَ الْـمَـسْـمُـوعِ
وكيف أنه وصل إلى مرحلة , لم يعد فيها من فم يتكلم في الشعور الذي هو فيه , بعد أن عافه النصح والملام , ويتجلى الألق الشعري بقول الشاعر : فمالي من فم , غير صمتي المسموع , أية صورة شعورية هذه , ثم يصوّر الشاعر داخله بمقولة معروفة للصابرين المكابدين : هَــــذِهِ مُـهْـجَـتِـي جِــبَــالٌ مِــــن الـصَّـبْــرِ :
هَــــذِهِ مُـهْـجَـتِـي جِــبَــالٌ مِــــن الـصَّـبْــرِ
فَـضُـوعِـي فِــــي سَـفْـحِـهَـا أَوْ فَـضِـيـعِـي
, ثم يتابع حزينا على نفسه , حزينا على ما وصل إليه :
إِنَّــنِــي أَسْـكَـنْــتُ الْخَـفَـافِـيـشَ دَوحِــــي
وَالْـعَـصَـافِـيـرَ فِــــــي كُـــهُـــوفِ بَـقِـيــعِــي
وأية حركة إبداعية هذه , عندما الخفافيش , وهي رمز الفأل السيء , وهي التي تسكن الكهوف , تسكن عند الشاعر في دوحه , والدوح رمز الخير والفرح , أم العصافير والتي لها أن تسكن الدوح , صارت تسكن مكان الخفافيش , أية مأساة هذه , وأية شاعرية , ثم يطلق الشاعر زفرة حرى :
عَـــــرَبِـــــيٌّ تَـــلَـــفَّــــعَ الْـــــعُـــــرْيَ خَــــــــــزًّا
وَامْـتَــرَى الْـعِــزَّ مِــــنْ أَكُــــفِّ الْـخُـنُــوعِ
وتبرع الشاعرية , من جديد , كيف يصور الشاعر ما آلت إليه الحال , وكيف أصبح العري ملبسا , بديلا للحرير وناعم الثياب , وكيف أن العزّ , صار يطلب من الأكف الخانعة التي لا خير فيها , وكل هذا بأسلوب بياني لافت , ثم ينتقل إلى صورة داخلية نفسية أخرى :
أَشْــتَــرِي خِـنْـجَــرَ الـشِّــقَــاقِ وَأَهْـــــوَى
طَـعْـنَ قَلْـبِـي وَأَشْتَـكِـي مِــنْ ضُـلُـوعِـي
أية بلاغة هذه , عندما يستخدم الشاعر لفظة الخنجر , التي غالبا ما توحي بالغدر والخيانة , معقبا على اللفظة بالشقاق , امعانا في التبيين , ليطعن به قلبه , والقلب مركز العاطفة , والضلوع لاتحمي , بل هي مصدر آخر للألم , وكأن الشاعر يتأوه عندما يذكر انتماءه , المقرون بعمق بلواه , متذكرا بشكل غير معلن الأيام الناصعات من تاريخ الأمة , عندما يلتفت ليقول :
وَأَلُــــــوكُ الــتَّــارِيــخَ أَنْـــسِــــجُ مَـــجْــــدِي
مِــنْ نَـصِـيـعِ الـدِّثَــارِ لَا مِـــنْ صَنِـيـعِـي
فاستخدم الشاعر لفظ يلوك , وهو المضغ المتكرر , وخاصة لبقايا غذاء سابقة , دلالة على التغني بالماضي المشرق , ليبني مجدا جديدا , من بقايا عفى عنها الدهر , لا مما يقدم ويصنع , في توقد شاعري رائع , صورة وبلاغة , وتوافق جرس , ولعلي وقفت طويلا وبإعجاب عند هذا الشطر :
وَتَـطْــوِي الـشِّــرَاعَ قَــبْــلَ الــشُّــرُوعِ , متأملا بالصورة الداخلية , والتناغم اللفظي الموفق , بين الشراع والشروع , منتهى البلاغة والتألق , ثم أقف عند بيت مبهر رهيب , حيث يقول الشاعر :
أَنَـــــا مِــــــنْ أُمَّــــــةٍ تَــعَــايَــتْ فَــأَعْــيَــتْ
كَــــفَّ مُــوسَـــى وَمُـعْــجِــزَاتِ يَــسُـــوعِ
كيف يصور الأمة , وكيف دب فيها الخور والمرض , بل هي التي أمرضت نفسها , وأية روعة في التعبير عن ذلك ( تعايت فأعيت ) , رهيبة هذه اللقطة الشعرية , صورة وجرس وبلاغة , ثم يتألق الشاعر , عندما يرى أن الأمة في ضعفها وخورها , أعيت وأفشلت يمين نبي الله موسى , ولأعيت وأفشلت معجزات السيد المسيح , بمعنى أن اليأس قد بلغ مبلغا , لا تصلح معه المعجزات , كناية ودلالة على عمق الخور , وحالة الحبط والتردي , ولا أجد أية غضاضة أو مأخذ على الشاعر , في هذا التوظيف الرائع , بل هو منتهى الابداع , وهنا أتذكر قولا من الشعر , يريد من خلاله الشاعر أن يظهر البركة , فيقول :
كل رغيف أهله تسعة ــــــــ لكأنما صلى عليه المسيح
هل يصح أن نتهم الشاعر بالخروج عن منطوق اسلامنا وديننا , أما استخدام الشاعر للفظة يسوع , وهي كما قرأت في خضم التعليقات على هامش القصيدة , بأنها لفظة غير إسلامية , فلا أرى أيضا اية مشكلة في هذا , هكذا يطلق عليه البعض , واللغة ليست وقفا على أحد أو جماعة .
للقراءة بقية .
د. محمد حسن السمان