تأث
تأثير المقامات العربية في الفن القصصي الجديد في أوربا:
"ويوجد وجوه شبه قوية بين قصص الشطار السابقة الذكر، وبين المقامات العربية كما نعلمها عند بديع الزمان الهمذاني، ثم الحريري، ولم تبحث هذه المسألة بحثًا مقارنًا بعد، ولكنّ الأَدِلّة التاريخِيّة تقطع بأن مقامات الحريري عرفت في الأدب العربي في إسبانيا. ومن كتاب العرب الإسبانيين -يقصد الأندلسيين- من ألفوا مقامات على غرارها في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، مثل: ابن القصير الفقيه، ومثل أبي طاهر محمد بن يوسف السرقسطي، وقد شرح مقامات الحريري كذلك كثير من العرب الإسبانيين من أشهرهم: عقيل بن عطية المتوفى عام ألف ومائتين وأحد عشر، ثم أبو العباس أحمد الشليش المتوفى عام ألف ومائتين واثنين وعشرين. ثم إن مقامات الحريري ترجمت إلى اللغة العبرية، ترجمها سالمون بن زقبيل في القرن الثاني عشر الميلادي، ثم ترجمها الحريزي وظهرت ترجمته عام ألف ومائتين وخمسة؛ وقد كانت هذه المقامات رائجة كل الرواج، لا بين العرب فحسب بل بين العبريين والمسيحيين أيضًا، ولهذا ترجموها إلى لغاتهم. وإذًا قد لقيت هذه المقامات حظًّا كبيرًا في الأدب العربي في الأندلس، وغير معقول أن تظل مجهولة لدى كتاب الإسبان، وقصاصيهم بعد ذلك، وهذا التلاقي التاريخي هو الذي يفسر وجوه التشابه الكثيرة الواضحة بين المقامات، وجنس قصص الشطار في الأدب الإسباني، وقد آثر الكتاب الأسبان أن ينحو منحاها الواقعي على أن يسيروا على منوال قصص الرعاة المثالية، فكان جهدهم ذا أثر كبير في القضاء على قصص الرعاة، وفي التقريب بين القصة وواقع الحياة، وأثروا بذلك تأثيرًا فيه كتاب القصة للآداب الأوربية الأخرى. ولا يكتفي الدكتور هلال بذلك؛ بل يمضي فيبين امتداد تأثير المقامات، ذلك التأثير الذي يقوم عليه ما بسطه هو من شواهد قوية مقنعة، إلى خارج الأدب الإسباني، فيقول: "وممن تأثر بهم أي: بالأدباء الإسبان المتأثرين بالمقامات العربية، في الأدب الفرنسي "شارل سوريل" في قصته تاريخ "فرانسيون" الحقيقي الهازل، وقد نشرها في باريس عام ألف وستمائة واثنين وعشرين، وهي أول قصة من قصص الشطار في فرنسا، وهي على لسان شخصية "فرانسيو" يهجو فيها العادات والتقاليد بوساطة أشخاص من المتسولين، ومن يعد في حسابهم في نظر المؤلف، كما يهجو مختلف الطبقات الأخرى. وقد كانت هذه القصة، وأمثالها أصلًا لما سلكه الكاتب الفرنسي "لوساج" في قصته "جون بلا" التي ظهرت طبعتها الكاملة في فرنسا عام ألف وسبعمائة وسبعة وأربعين؛ وفيها يهجو المؤلف العادات والتقاليد على لسان البطل الذي سُمّيت القصة باسمه؛ كما كان قد انتفع بهذا الاتجاه العام الأقرب إلى الواقع الكاتب الفرنسي الآخر "جوتييه" في قصته التي عنوانها (موت الحب) " التي ظهرت في باريس عام ألف وستمائة وستة عشر، وفيها يُصَوّر حبًّا ماديًّا بين راعٍ نفعي غليظ الطبع، وراعية في صفاتهما الحقيقية بين الرعاة العاديين، وهو حب لا مثالية فيه. ثم يخلص كاتبنا إلى القول بأنه بهذا الجهد المشترك لكتاب القصص في الآداب المختلفة، قضي على قصص الرعاة كما قضي من قبل على قصص الفروسية والحب، وقامت على أنقاضها قصص العادات والتقاليد في معناها الحديث، وخلت القصة بذلك من العناصر العجيبة الخارقة للمألوف، واتخذت حوادث حياة العادية، مادة خصبة لموضوعاتها. وفي نفس الموضوع يكتب الدكتور جميل حمداوي في منتدى الزوراء قائلًا: لم تظهر لفظة "بيكاريسكا" باعتبارها لفظة إسبانية إلا في نهاية الربع الأول من القرن السادس عشر، قُبيل ظُهور الرواية الشطارية الأولى في الأدب الإسباني للروائي المجهول، ألا وهي: حياةُ "لفاريو دوترموس" وحظوظه ومحنه، وتدل هذه اللفظة على جنس أدبي جديد تشكل في أسبانيا لأول مرة، ثم انتقل بعد ذلك إلى فرنسا وألمانيا، وإنجلترا وأمريكا، وتعني هذه الرواية ذلك المتن السردي الذي يرصد حياة "البيكارو" أو الشطاري المهمش. لذلك تنسب هذه الرواية إلى بطلها "بيكارو" الشاطر أو المغامر الذي يقول عنه قاموس الأكاديمية الإسبانية: نموذج شخصية خالعة وحذرة وشيطانية وهزلية، تحيا حياة غير هنيئة، كما تبدو في عيون المؤلفات الأدبية الإسبانية، أو أنه بطل مغامر شطاري، مهمش، صعلوك، محتال متسول. وتعتقد الأكاديمية الأسبانية أن لفظة "بيكارو" مشتقة من فعل "بيكار" في معناه الشعبي المجازي، وهو الارتحال، والصيد، واللسع، وتعني "بيكاريسك" في اللغة الفرنسية الأعمال التي تصف الفقراء والمعوزين والمعدمين والصعالكة، والمتسولين والأنذال، أو قيم المتشردين والمحتالين واللصوص في القرون الوسطى. و"البيكارو" باعتباره بطل رواية "البيكاريسكية" ليس بمقترف جرائم في معنى الجرائم الحقيقي، ولكنه ينتمي إلى طائفة المتسولين، لا يبالي كثيرًا بالقيم، ومساوئ الأخلاق؛ ما دام الواقع الذي يعيش فيه منحطًّا، وزائفًا في قيمه، يَسُوده النفاق والظلم، والاستبداد والاحتيال، حتى من قبل الشرفاء والقساوسة والنبلاء، ومدعي الإيمان، والكرم والثراء، وما هم "البيكارو" سوى البحث عن لقمة الخبز، ورزق العيش، لذلك فهو في حياته مزدوج الشخصية؛ جاد في أقواله ونصائحه ومعتقداته، وذكي يتكلم بالنصائح، ويتفوه بإيمان العقيدة، ولكنه في نفس الوقت يسخر من قيم المجتمع وعاداته، وأعرافه المبنية على النفاق والهراء. وهدف "البيكارو" من اتخاذ عمل منتظم لرزقه، بل يتسكع في الشوارع، ويتصعلق بطريقة بوهمية، وجودية، وعبثية، يقتنص فرص الاحتيال والحب والغرام، منتقلًا من شغل لآخر كصعلوك مدقع، يرفضه القانون وسنة الحياة والعمل، يفضل الارتحال والكسل والبطالة، وعلى رغم من كل هذا يحصل على المال لا باغتصابه، بل بالحيل والذكاء واستعمال المقدرة اللغوية، والحيل والمراوغة، وفصاحة اللسان، وبلاغة البيان، والأدب، ويجعل الناس يقبلون عليه بسلوكياته ومواقفه، ويرغبون في مصاحبته ومعاشرته إشفاقًا عليه، وعطفًا واستطرافًا. وتعتبر نصوص "بيكاريست" بمثابة قصص العادات والتقاليد للطبقات الدنيا في المجتمع، أي: إنها قصصُ مُغامرات الشطار، ومحنهم ومخاطراتهم، لذا غالبًا ما تكتب صيغة سيرية أو طبوغرافية، روائية واقعية سواء بضمير المتكلم أم بضمير الغائب؛ لذا تسمى أيضًا برواية "الأتوبوغرافية البيكاريسكية" التي يؤكد متى اعتماد الرواية على تصوير البعد الذاتي، وتجسيد تقاطعه مع البعد الموضوعي. وتتخذ هذه الروايات صيغة هجائية، وانتقادية لأعراف المجتمع، وقيمه الزائفة المنحطة، فاضحة إياها بطريقة تهكمية ساخرة، منددة بالاستبداد والظلم والفقر. وتتغنى الرواية "البيكاريسيكة" باعتبارها رواية شعبية بالفقراء والكادحين والمهمشين، الذين صودرت حقوقهم، وممتلكاتهم، وحرياتهم، وأصبحوا يعيشون على هامش التاريخ. لم يظهر الأدب "البيكاريسكي" في إسبانيا إلا تأثرًا بالفن الشعبي العربي بالأندلس، ولا سيما ظهور طبقة اجتماعية من الشطار العرب المسلمين المهمشين المشردين، الذين آثروا حياة الصعلكة، والبطالة والتمرد على قوانين المجتمع والسلطة، وكانوا يعيشون على حافة المجتمع سواء بالأندلس، أم في ربوع أخرى من العالم العربي الإسلامي، الذي انفتحت عليها أسبانيا. ويقضي هؤلاء الشطار "بيكاروس" حياتهم في التسول والاتحاد والغناء، وممارسة الكدية، والاحتيال قصد الإيقاع بالآخرين من أجل الحصول على المال، أو الحب أو لقمة العيش، وكان هؤلاء الصعاليك المحتالون المرحون يسمون في الثقافة الإسبانية بالمورو، وتحضر صور هؤلاء كثيرًا في الرواية الشطارية الإسبانية، إذ يقول أستاذي الدكتور محمد آنقار: "لم تكن الرواية الشطارية الأسبانية تتبلور من حيث نوع سردي بعيدًا عن التيارات، والأنواع الأدبية كالغنائية والمسرح الشعري، والقصة الموريسيكية، والقصية العاطفية أو الرعوية، التي حفلت كلها بصور غزيرة للمسلمين والعرب والمغاربة، خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. إلا أن مما يلفت النظر في الرواية "الشطارية" هو ضآلة صور "المورو" على الرغم من أن الظاهرة الموريسكية لم تكن قد تلاشت نهائيًّا خلال تلك الفترة، ويتعلق الأمر على الخصوص بالروايتين النموذجيتين "لافاريو" وتاريخ حياة "البسكو" وتعتبر رواية "لاثاريو دوترموس" نموذجًا "شطاريًّا" في إدانة المسلم، وتصوير وضعيته الرديئة حتى لدى الأوساط الدنيا لكي يعلم الناس أن "المورو" لا يؤدب إلا بعقابه، وتوبيخه، وصده عن غيه. ولكن السؤال الذي ينبغي طرحه كما يطرحه الأدب المقارن، هو: هل تأثرت الرواية "البيكاريسكية" الإسبانية بأدب المقامات؟ للإجابة عن هذا السؤال، انقسم الباحثون إلى قسمين: فريق ينكر هذا التأثير، وفريق آخر يؤكده ويثبته. ومن بين المثبتين هذا التأثير نذكر الدكاترة: محمد غنيمي هلال، وسهير القلماوي، وأحمد طه بدر، وعبد المنعم محمد جاسم، وعلي الراعي الذي يرى أن أثر المقامات الذي يعترف به الدارسون وعرب وغربيون، ربما كان أقوى أثر مفرط تركه العرب في الأدب الغربي. فعن طريق محتال المقامة قام الأدب الاحتيالي في إسبانيا، وامتد من ثم إلى فرنسا وألمانيا وإنجلترا؛ ليكون الأساس لصرح الرواية الواقعية التي أسهمت في خلقها أقلام كتاب مرموقين، من أمثال: "ديفو" و"فيلدنج" و"ديكنز" في إنجلترا و"لوساج" و"بلزاك" و"فلوبير" في فرنسا، بل لا تزال هذه الرواية الواقعية الاحتيالية موجودة بيننا في عملين محددين أولهما: (فيلكس ترول) لـ"توماس مان" الألماني، والثاني (مغامرات أوجيه مارش) للكاتب الأميريكي "سول بريو". ولقد انتقل نموذج بطل المقامات العربية القديمة في العصور الوسطى العصر العباسي، إلى الآداب الأوربية؛ يقول غنيمي هلال: "فأثر فيها بخلق نموذج أدبيّ آخر، تطورت به القصة الأوربية بعد أن عرفت تلك الآداب المقامات العربية عن طريق الأدب العربي في إسبانيا، وقد أثر نموذج بطل الحريري في الأدب العربي الأندلسي، ثم الأدب الأسباني بعامة، ثم تعاون هذا التأثير كله في خلق قصص الشطار، التي تعد قصة حياة "لاثاريو دوترموس" نموذجًا له. ويؤيد رأي الدارسين العرب باحثون إسبان هم أيضًا ذهبوا إلى تأثر الرواية "البيكاريسكية" بأدب المقامة العربية، ومن هؤلاء مؤلفا دائرة المعارف الوجيزة في الحضارة العربية، حيث يقولان: "إن هذا النوع الأدبي -يعنيان المقامة- قد تَسرّبا للأدب الفارسي، وغيره من آداب شرقية، ويبدو أنه قد أثر أيضًا إلى حد ما على كتاب الرواية الأوائل في كل من إسبانيا وإيطاليا". وينفي الناقلُ الإسباني "آنخرفلورس" التأثير المباشر للمقامات "البيكاريسك" لانعدام الطابع "الأتوبغرافي" في مقامات الحريري باستثناء مقامة واحدة، وهي المقامة "الحرامية" ولأنّ الترحال كان موجودًا في الآداب القديمة: اليونانية والرومانية؛ فإذا سلمنا جدلًا بأن بطل المقامات يقوم في كل مقامة منفردا برحلة تورطه في شتى الملابسات، مع أناس مختلف الأصوات والطبقات الاجتماعية؛ فلا يجب أن ننسى أن هذا التراث القصصي الذي يمثل البطل المتجول، والذي يبدو واضحًا في رواية "البيكاريسك" الإسبانية هو في الواقع سابق لظهور هذه الرواية، وسابق لانتقال أدب المقامات من الشرق العربي إلى المغرب وإلى الأندلس الإسلامي. ويجاري الدكتور عبد المنعم محمد جاسم مذهب المستعرب الإسباني "أنجلف فلورس" حينما قال: والذي أريد أن أقولَه في نهاية هذا المطاف حول إمكانية التأثير العربي في الرواية الإسبانية: إن هذا التيار العميق الغور، والبعيد المدى من القصص والنوادر، والطرائف الشعبية العربية كان ذا أثر أبعد في التمهيد لظهور رواية "البيكاريسك" الإسبانية من المقامات التي وقف عندها الباحثون مرارًا وتكرارًا، وحاولوا أعطائها دورًا لم تكن بطبيعتها مؤهلة له. فالمقامات كانت تكتب للتداول في صفوف الضالعين والمتبحرين في علوم اللغة، وبما أنها كانت عسيرة اللغة، وعسيرة الفهم، وكثيرة المجاهل؛ فإنها لم تترجم إلى اللغة اللاتينية، أو اللغة الإسبانية. وعلى كل حال فأنا لا أحاول في هذا البحث الاستدلال على أية فصول من الأدب الإسباني، جاءت منقولة أو واضحة التأثر بأصول عربية؛ لكن القارئ قد يجد فيما أردت إثبات جديد لوجهة نظر الكاتب والناقد "آنخرفلورس" القائلة بأنّ الرواية بمظاهرها المختلفة، قد ظهرت في إسبانيا قبل أي بلد آخر بسبب أثر الحساسية العربية في الآداب الإسبانية. ويذهبُ الدُّكتور محمد أنقار إلى ضرورة التريث في الحكم على مدى تأثير المقامة، في "البيكاريسك" الروائي حتى تتوافر الأدلة العلمية الدقيقة، والحجج القاطعة؛ ولكن هذا لا يلغي أمكانية مقاربة "البيكاريسك" على ضوء السرد العربي القديم، ومن خِلال قواعد فن المقامة، تلك صور نادرة "للمورو" في هذه الرواية، أي: رواية "لآثاريو ديترموس" التي لا يعلم بعض النقاد الصلة بينها وبين الحكي العربي القديم، على مستوى العلاقة بفن المقامة أو بعض النوادر والحكايات. وإذا كانت مثل هذه الاحتمالات لا تزال في حاجة إلى تمحيص علمي مقنع؛ فإن ذلك لا يلغي بتاتًا إمكانية قراءة هذه الرواية "الشطارية" بموازاة مع أعراف السرد العربي القديم وأساليبه؛ مثلما هو الشأن في دراسة محمود طرشونة. وهناك نقطة واحدة لا أُحِبُّ المُضي دون أن أقول كلمة سريعة بشأنها، ألا وهي: زعم المستشرق الإسباني أن البطل الجوال في قصص "البيكاريسك" قد ظهر في الأدب الإسباني قبل انتقال فن المقامة من المشرق العربي للأندلس، وهو زعم خاطئ؛ إذ إن قصة حياة "لوثاريو دوترموس" وحظوظه ومحنه، التي ذكر محمد غنيمي هلال أنها أول قصة من نوع "البيكاريسك" في ذلك الأدب قد ظهرت عام ألف وخمسمائة وأربعة وخمسين على حين انتقلت المقامة للأندلس قبل ذلك بعدة قرون. ويزيدُ الأمرَ إيضاحًا دكتور عيسى الدودي في مقاله: "تأثير المقامة في فن السردي الأوربي المنشور في منتدى المؤتمر" فيقول: اعترف كثير من المهتمين بالأدب الأندلسي، بكون المقامة كانت جسرًا لمرور القصة لإسبانيا وعموم أوربا، وذلك استنادًا إلى المقارنات التي عقدوها بين المقامة والأدب السردي في أوربا، وانتهوا إلى هذه القناعة بعد أن توصلوا إلى كثير من أوجه التشابه بين الفنين. بدأ فن المقامة في الانتشار في أواخر القرن الرابع الهجري، وأبرز أعلام هذا الفن في المشرق الحريري والهمذاني، ثم إنه قدر لهذا اللون من الأدب الانتشار الواسع في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، وكثر المقلدون لهذا اللون من الأدب. وقد عرف الأندلسيون المقامة عن طريق من رحل إليهم من المشرق، كما قدر للأندلسيين الوافدين المشرق الاطلاع على هذا الفن الأدبي، وخاصة من أسعدهم الحظ، وأقاموا في بغداد، وبعد أن أتموا دراستهم عادوا إلى بلدهم، ونشروا هذه المقامات، فلقيت قبولًا من طرف الأندلسيين، ونالت حظّها من المعارضة والشرح والنقد والتعليق، ونُسجت على منوالها مقامات مشهورة، كـ"مقامة أبي حفص عمر الشهيد"، و"مقامة أبي محمد بن مالك القرطبي" و"مقامة عبد الرحمن بن فتوح" و"مقامة ابن المعلم". ثم إن هناك من توجه لشرحها كمحمد بن سليمان المالقي، وعبد الله بن ميمون العبدري الغرناطي، وأبي العباس الشريشي، وعقيل بن عطية، ومقامات البطاليوسي، وابن المرابع الأزدي صاحب مقامة العيد، وابن القصير الفقيه، ولسان الدين الخطيب، بالإضافة إلى مقامتين لمحارب بن محمد الواد آشي، والمقامة الدوحية أو العياضية، ومقامة ابن غالب الرصافي. ويبقى أبرز من تأثر بالمقامات الشرقية السرقسطي، وتُسمى مقاماته بالمقامة السرقسطية، وهي المعروفة باللزومية؛ وهي خمسون مقامة عارض بها مقامات الحريري. والمقامة هي: حكاية عن حيلة تافهة بطلها مُتشرد ظريف، يتقمص في كل مرة شخصية معينة؛ فهو مرة قراد يسير بقرده؛ ليجمع الناس في حلقات، فيضحكهم، ويأخذ من أكياسهم. وهو مرة واعظ محترف يلج المساجد تدمع عينه، ويرتل آيات الذكر ورقائق الوعظ، وسير الصحابة، ومرة ثالثة ينحط لدرجات وبيئة، فيسرق أكفان الموتى، ويجمل خادمه ليوقعه في حبه المتهورين. ويتوخى صاحب المقامة من ذلك: الوصول إلى قلوب الناس، وكسب مودتهم بمقدرته اللغوية، وألاعيبه اللفظية، وذلك بالإغراق في السجع والصناعة البديعية، حتى أن الدكتور عبد الله بن علي بن ثقفان قد سمى المقامة بالقصة اللغوية، وهذا ما جعل الأندلسيين يطلقون اسم المقامة على كل قطعة من النثر المنمق المرصع بالأشعار النفيسة. وإذا انتقلنا إلى الحديث عن تأثيرها في الأدب الأوربي خاصة السردي منه: فإن كثيرًا من الباحثين تحدثوا عن تأثير فن المقامات في الأدب الأوربي تأثيرًا واسعًا متنوع الدلالة؛ فقد غزت هذه المقامات قصص الشطار الإسبانية بنواحيها الفنية، وعناصرها ذات الطابع الواقعي. وتعلق "حبيبة تلبور قادي" عن هذا اللقاء الأدبي بقولها: "وهذا اللقاء التاريخي هو الذي يشرح وجوه الشبه الكبيرة بين المقامات، وقصص الشطار في الأدب الأسباني، وقد فضل الكتاب الأسبان أن ينسجوا على منوال قصص المقامات الواقعية، عوضًا أن ينسجوا على منوال قصص الرعاة، واستطاعوا بعد جهد جهيد أن يقربوا بين قصصهم وواقع الحياة، وأثروا بذلك تأثيرًا كبيرًا في الآداب الأوربية. ثم إن المقامة حولت الأدباء من الجري وراء الخيال، وذلك بنسجه قصص الحب والفروسية والرعاة إلى الواقعية، وتقريب الفرد من المجتمع، ودعته ليفتح عينيه على واقعه، لذلك اتجه الكتاب الروائيون بإيحائها إلى التحدث عن أحوال المجتمع، وظروف الأغمار من الناس، ثم أبدعوا روائعهم في هذا الاتجاه الواقعي، متناسين هذه الأحلام الهادئة التي كانوا يملئون بها قصصهم الخيالية. وأول قصة من هذا النوع في الأدب الإسباني كان عنوانها "حياة لاثاريو ومحنته" وقد نشرت أول مرة سنة ألف وخمسمائة وخمسة وخمسين، وفيها وصف لطفل بائس كان ابنًا لطحان فقير، سُجنَ وذو جريمة صغيرة كانت منه، ومات في السجن دون عائل يرعاه، فبدأ حياته شحاذًا يتسول، وقد اهتدى في حرفته الفقيرة بأعمى متمرس، كان سيبين له طريق الشحاذة، ثم يختلفان بعد حينٍ لشراهة الأعمى وطمعه في ابتزاز صاحبه، فتركه ليعمل خادمًا لدى قس محترف، يعيش على أموال الصدقات، ويشاهد غرائب عجيبة من بخله، وجشعه، وأثرته. وممن تأثر كذلك بالأدباء الأسبان في هذا المجال "شارل سريل" في قصته "تاريخ فرنسيون الحقيقي الهازل" وقد نشرت باريس سنة ألف وتسعمائة واثنين وعشرين، وهي أول قصة من قصص شطار في فرنسا على لسان فرنسيون يهجو فيها العادات والتقاليد، بواسطة أشخاص من المتسولين، ومن يعد في زمرتهم في نظر المؤلف، كما يهاجم مختلف الطبقات في عهده من خلال أولئك الأشخاص، وقد سار على نهجه لوساج في قصته التي يهجو فيها العادات والتقاليد، على لسان البطل الذي سميت القصة باسمه "فيل بلا". وانتفع بهذا الاتجاه "جوتييه" في قصة "موت الحب" وهذه المقامات زكت الاعتقاد أن قصص الشطار قد حوت نقدًا مريرًا للأنظمة الإقطاعية التي كانت سائدة في القرون الوسطى، يُشبه ذلك النقد المرير الذي قدمه بديع الزمان للواقع الإقطاعي في العصر العباسي من خلال مقاماته. كما أن هناك من الباحثين من يثير تأثير المقامة في الكوميديا الإلهية، "لدانتي" إذ ليس من المعقول أن يكون هذا الكاتب بمعزل عن الثقافة العربية الإسلامية، وهو المُلم بجميع نواحي الثقافة والمعرفة آنذاك. وقد درس الموضوع بمزيد من الجدية والعمق المستشرق الإسباني "بلاثيوث" في كتابه (المعتقدات الإسلامية حول العالم الآخر في الكوميديا الإلهية) وهو خلاصة دراسة استغرقت عشرين عامًا، وازن فيها المؤلف بين قصيدة "دانتي" من جهة، وبين الكتب الدينية الإسلامية وبعض الكتب الدينية العربية كالقرآن الكريم، وكتب الحديث والتفسير والسيرة ومؤلفات المتصوفين، ولا سيما كتاب (الفتوحات المكية) لابن عربي و (رسالة الغفران) للمعري، وقصص الإسراء والمعراج، وانتهى المؤلف في دراسة كل هذا إلى القول بأن "دانتي" كان مطلعًا على كثير من نواحي الثقافة الإسلامية، وأنه استقى من هذا المنبع بعض الصور والمعلومات التي وردت في الكوميديا الإلهية، مما يتعلق بالبعث والحشر وخلود النفس ومشاهدة الجنة والنار. ونشير إلى أنه وظف هذه المعاني الدينية وفق تصوره، إذ يقول الدكتور نذير طعمة: "لقد تأثر "دانتي" بمعمارية المعراج، فأفرغها من مضامينها الإسلامية، وملأها بمضامين ومواقف تنسجم مع ثقافته ومعتقده. وهذا يأخذنا إلى الربط بين المقامة والفن الروائي؛ فقد ذكر "بيير كاركيا" أن الفن الروائي لم يجد متنفسًا له سوى في المقامة، وهي كلمة ترجمت إلى الإنجليزية بلفظة "السنمبيلي" وإلى فرنسية بلفظة "سيونس" مما يفيد أنه يمكن قراءتها في جلسة واحدة. وينقل محمد رجب البيومي عن الفيلسوف الفرنسي "آنس درينان" هذا الإعجاب بالمقامة التي آثرها على مجموعة "بلزاك" الأدبية، بحيث أن الحريري قاد شحاذه في خمسين موقفًا مختلفًا، بقوة اختراع عجيبة، ودقة وتأمل في الأخلاق والعادات؛ لنعلم مهارة الغرابة التي تنطوي عليها فكرة المقامات، أرادوا أن يضعوا في القرن التاسع عشر مهزلة بشرية يشير إلى مجموعة "بلزاك" المسماة بهذا الاسم؛ فلم يعرفوا كيف يجعلونها في قالب مقبول؛ في حين حقق الحريري هذه الفكرة والمجتمع الإسلامي في القرن الثاني عشر، أما بلزاك فقد نقصته شخصية أبي زيد الذي لا تكاد تلمسها حتى تفلت. وننهي حديثنا عن المقامة بالإشارة إلى أن التراث العربي الإسلامي ليس هو الوحيد الذي أثر في الفن السردي بإسبانيا، بل هناك تأثيرات مسيحية لا يمكن القفز عنها وتجاهلها، ويؤكد هذه الحقيقة عبد العزيز الأهواني بقوله: "وحين نتجاوز الألفاظ، والأخبار، والقصص سنجد في كتب التاريخ الأندلسي أمثال قصة "البيت المقفر" في طليطلة، وكيف أمر "لذريق" آخر ملوك "القوط" بفتحه، فكان نذيرًا بدخول العرب إلى إسبانيا". وقصة بنت ليون صاحب سبته مع ذلك الملك، وكيف غيرت التاريخ، وكلها قصص أخذت بغير شك من التراث الشعبي المسيحي.


المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)