هذه الدراسة في الاصل جاءت ردا على القول ( الشعر هو الكلام الموزون المقفى )
والذي أرى أنه لم يفهم على الوجه الصحيح ، وأن من يروجه يحاول انتقاص
العرب وانتقاص فهمهم للشعر
******************************
(( الشعر هو الكلام الموزون المقفى )) .
كثيرا ما يصادفنا تعريف العرب هذا قديما للشعر .
وكثيرا ما حاول المتفرنجون والمستغربون والمتحاملون على تراثنا وأدبنا
انتقاص مكانة الشعر فينا بمحاولاتهم المستميتة لهدم كل ذوق طيب فينا .
ساطرح سؤالا هاما هنا وأحاول متوكلا على الله الاجابة عليه ، فان أصبت بعدها
فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي .
هل كان العرب قديما على هذا المستوى من السذاجة والبساطة الفكرية ليعرفوا
الشعر بهذا التعريف ( الشعر هو الكلام الموزون المقفى ) ؟؟؟؟ أو أن من اقتبس
عنهم لم يكن على وعي كاف بمقصدهم من التعريف وما يعنيه حقيقة ؟؟؟؟؟؟؟؟
خاصة ونحن نملك بين أيدينا أقوالا للعرب تنسف وتنفي أن يكون هذا فهمهم للشعر
وكذلك تنصفهم في فهمهم للشعر ، وتدل بما لا يدع مجالا للشك أنهم كانوا على
مستوى عال من الوعي والإدراك للشعر وتعريفه أكثر من أية أمة على وجه الأرض .
تعالوا بنا نضع القول على محك النقد ونحاول المقارنة بينه وبين فهم العرب
الحقيقي للشعر :
( الشعر هو الكلام الموزون المقفى ) هذا القول أو التقرير يشير الى أن
الشعر كلام موزون ومقفى فقط ، ولا يتجاوز ذلك والعرب تنفي عن نفسها مثل هذه
التهمة ( ألفية ابن مالك لم يعتبرها العرب شعرا رغم الوزن والتقفية )
اذا نفي التهمة موجود عندنا وتكذيبها بين أيدينا منذ البداية ، فما
سبب تكرار قول العرب كتعريف محدد للشعر رغم وجود ما ينفي هذا التحديد ؟؟؟
وما هي أهداف مروجي القول في عصرنا ؟؟ ولماذا انتقاص العرب من خلال هذا القول ؟؟
( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) (الشعراء:224)
(أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ) (الشعراء:225)
كلنا يقرأ الايتين في معرض الرد على شاعر اتى بغريب مثلا أو ادهش قارئه
أو استنكارا لقول قاله شاعر. وعلى العموم فاننا نردد الايتين ليس للوقوف
على معنى الشعر وتعريفه ، بل نرددهما لأمر آخر ، لنتوقف قليلا مع الايتين
الكريمتين فهما متعلقتان بصلب موضوعنا ( الشعراء + في كل واد يهيمون )
وهذا مخالف لباقي البشر خاصة ( في كل واد يهيمون ) وفي اللسان :( ويقال :
هو وادي الكلام ) لكننا نجد في الكلام موزونا وغير موزون وهذا المفتاح هو
الأول للدخول ، ويصبح معه ( كلام موزون مقفى ) ناقصا بل غير دقيق ولا بد أن هناك
محذوفا ، أو مسكوتا عنه في التعريف ، ولعلنا نصل إليه ونقف على حقيقته .
( وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ) (الصافات:36)
في اللسان : ( والشعر منظوم القول ، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية
، وان كان كل علم شعرا من حيث غلب الفقه على علم الشرع والعود على المندل
والنجم على الثريا ) . وفي تعريف الشاعر :( لانه يشعر ما لا يشعره غيره أي
يعلم ) . ويعلم هنا في الشعر .
يتضح لنا هنا أن تعريف الشعر ( منظوم القول ) هو تعريف غلب وليس بسبب دقته
أو أي أمر من هذا القبيل ، ولأن القافية في الشعر ابتكرها العرب ، فمن هنا
صارت دالة على فن الشعر حصرا ، ثم الشعر عند العرب يخضع للوزن ، فغلب القول
وصار تعريفا ، ولا يقصد به أن الكلام الموزون المقفى شعر ، في حال خلوه من مقومات
الشعر الأخرى ، وألفية ابن مالك مثال صالح هنا .
لننظر في تأليف اخر وصفه العرب قديما أنه قول شاعر ( القرآن الكريم ) ، أي لا
يستطيع قوله غير الشاعر ، وكفى بقول كهذا دليلا على فهم العرب قديما للشعر .
( بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ) (الانبياء:5)
دققوا النظر جيدا في الاية الكريمة ( بل هو شاعر ) لماذا بالتحديد شاعر
والكل متفق أن القرآن ليس شعرا ، وفي حوار الوليد بن المغيرة مع نفر
من قريش وموقفه من القران ما ينفي أن القرآن شعر ( قالوا : فنقول : شاعر
؛ قال : ما هو بشاعر ؛ لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه
ومبسوطه ، فما هو بالشعر ) ....... ( قالوا فما نقول يا أبا عبد شمس
قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة ، وما أنتم
بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا
ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه ... الخ )
( أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِر ) الشعر الحديث في عصرنا فيه
تركيز على الحلم بشدة وتوظيف الأسطورة ، ( أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ) أليس هنا رد
وحكم أن الأمر كان معروفا ،في نطاق القول على الأقل .
يصفون كلام الرسول ( أضغاث أحلام ) ثم ( بَلْ هُوَ شَاعِر ) أي أنهم في حيرة من أمرهم
حول تحديد وتصنيف قول الرسول ضمن أي نوع مما عرفوا ( المقصود هو القران ) .
والان لننظر في القران نفسه ، فماذا نجد ؟؟؟
نجد الوزن الشعري كله وأضعاف ما هو معروف ، بل إنني وجدت أوزانا في كتاب
الله خارج نطاق بحور الشعر تعادل أضعاف أوزان البحور ، ويصح القول
إن كتاب الله يشتمل على موسيقى الوجود كله ، وليس موسيقى الشعر العربي
فحسب ، بل وجدت أوزان الشعر العربي مع استعمال الزحافات والعلل ، حتى
الاستعمالات الشاذة في الاوزان الشعرية ، ووجدت البيت مجزوءا ومشطورا
ووجدت شعر التفعيلة ، ثم قضية أخرى وهي التقفية ، وفي القران تسمى
الفواصل ، وهي منتشرة فيه بكثرة ، اذا لدينا هنا الكلام والوزن والقافية
( الفواصل ) وليس القران شعرا ، والوليد بن المغيرة استمع الى القران وكان
جوابه النفي (ما هو بشاعر ؛ لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه
ومبسوطه ، فما هو بالشعر ).
هذا مع وجود الوزن والقافية في الكلام ، والوليد بن المغيرة خبير بالشعر
وجوابه يثبت ذلك . لكن من ناحية أخرى لنلتفت الى قول النفر للوليد بن
المغيرة (قالوا : فنقول : شاعر ) هذا القول يشير الى أن لديهم معرفة
بالشعر تفوق ما ينسب اليهم من فهم ( كلام موزن مقفى ) فالقوم كما يظهر ليسوا
بسطاء في فهمهم للشعر وتعريفه ، وليسوا ساذجين الى الحد الذي يحاول
المستغربون والمتفرنجون والمهللون لكل ناعق غربي أن يضعوهم فيه .
فالقران فيه وزن وقافية ( فواصل ) وفيه الصورة الشعرية وفيه البديع كله
وفيه الخيال وروعة التصوير ودقته وفيه ما شئت من فنون القول كالقصة، بل
فيه المعجز والمدهش ، وبهذا الفهم نظر العرب الى القران ، فوجدناهم
يقولون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( هو كذا ، لا بل كذا ، لا بل كذا)
والسب أنهم وقفوا أمام نص غلبهم على علمهم بفنون القول ، انهم أصيبوا
بصدمة لذا اختلط الامر عليهم لما سمعوا ، وهم أهل البلاغة كلها ، ويأتي
الرد من السماء قاطعا :
( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (يّـس:69)
وما علمناه الشعر . هكذا. جواب قاطع ، فليس ما تسمعونه شعرا ، رغم اشتماله
على مقومات الشعر كلها كما تعرفونها ، وليس من يقرأه عليكم شاعرا
ونقف على فهم جديد للاية ، وهو أن الشعر أمر يمكن تعلمه وليس فطريا
فهو اذا علم يكتسب بالتعليم كغيره من العلوم ، وإلا لما قال ( وما علمناه )
يتبع