اختفاء قدوسة
قصة / حسن الشيخ
قبيلة الغوانمة التي افترشت الصحراء بخيامها الكالحة منذ زمن بعيد ، بدت الآن خاوية ، غارقة في الوحشة البعيدة المظلمة. فابنتهم قدوسة ، اختفت فجأة. هكذا دون مقدمات ، حينما كانت تلهو بين القطعان الهزيلة ، التي تسير دون هوادة. أصبح رجال القبيلة صباحاً ، فلم يجدوا قدوسة ، وأمسوا لا يعثرون لها على أثر. وكأن قدوسة مصرة على أن يكون اختفاؤها هو غربتها الأخيرة في متاهات القيظ والعبث.
تساءل الرجال ، لماذا اختفت قدوسة؟ وأين اختفت؟ ومن أخفاها؟ إلا أنها ظلت أسئلة محيرة دون إجابة. صحيح إن قدوسة لم تختفِ إلا بعد أن أحاطت بها الخطوب ، وأضحت الدروب الصحراوية ، متشعبة بظلامها المخيف ، إلا أن للقبيلة نواميسها التي لا يجب الإخلال بها. أين اختفت؟ هل اختطفها رجال هوشع؟ ظل السؤال الأخير لغز القبيلة المحيّر.
هناك .. حيث لا أحد يدري ، همهمت قدوسة ، بوجل: ضاعت خطواتي المرتبكة. فلم يبق سوى أن ألملم بين أصابعي بعضاً من ورود القمر النديّة ، إنها تشبهني ، فوريقاتها تضج بالبلادة والطراوة الكئيبة. ولكن لماذا لا أتخذ من شلال القمر المضيء ، سلماً أضع قدميّ الصغيرتين على عتباته ، لأصعد نحو نوافذه المضيئة ، المحدّقة بجنون على تلك القطعان الهزيلة العابرة للأودية الضيقة.
لم تكن قدوسة بنت إبراهيم تنوي الهرب أو الإختفاء. قال أبو داحم ، ثم تطلع للوجوه الواجمة حوله ، فأضاف ، لكنها اختفت دون أن تدرك هي ذلك أيضاً. اختفت بعد سماع أنينها ضاجاً بين أوديتنا المقفرة. وعواء ذئابها المجروحة ، يلاحقها بين الصخور المغسولة بخيبتنا ، والرمال المسكونة بألمنا النازف.
اجتماعات رجال القبيلة ، ونسائها ، بل وحتى أطفالها تتوالى ، للبحث في أمر قدوسة. بحث عنها شباب القبيلة في الأماكن المجاورة لمضاربهم. توقفوا عند أراضي قبيلة الهواشعة. لم يتجرؤوا على الدخول هناك. صحيح أنهم بحثوا ، إنما كان بإمكانهم أن يبحثوا بشكل أكثر جدية ، وأكثر نفعاً لو نظموا أنفسهم. فقدوسة بنت إبراهيم حلم الشباب القابع تحت عباءات الليل ، ذلك الحلم الطويل الذي راود الشيوخ أيضاً. استهوى البحث رجال القبيلة ، حتى قال البعض منهم ، وبشكل حذر سيستمر البحث حتى آخر العمر. لم يستطع أحد منهم أن يبوح بأمنيته جهراً. فأهالي قبيلة الغوانمة ، السائرون دون عيون .. ليس لهم سوى مطلب واحد ، إرجاع قدوسة. حينها تهتز نخوة الغوانة المعروفة ، في عروق رقابهم ، وتتعالى أصواتهم ، بتحقيق مطلب القبيلة الوحيد ، فيبدأون من جديد بالبحث عن الفتاة الحلم.
مَن من الغوانمة ، لا يتذكر قدوسة. كل له ذكريات جميلة معها. حين كانت تخرج من خيمتها الصحراوية .. تبدو عشبة ندية هائمة فوق رمال الصحراء المسكونة بالشبق. وتعبر على هامات الرجال بأجسامهم الضخمة ، فتهتز رؤوسهم ، فرحاً ، وإكراماً لها. تهتز الرؤوس والأجساد حتى تتطاير العمائم. وينبت شعر لحاهم الكثيف الخشن. فتسرع قدوسة إلى خيمة جدتها البدوية ملتفة بثوبها الأسود الطويل ، ومتقنعة (ببرقعها) الصحراوي. تاركة جسدها الطري العود ، يضجُ تحت ذلك الثوب المصبوغ بلون حزنها الدفين.
نعم. الكل يتذكر ، أيام الصحراء الغارقة في الحكايات الطويلة. كانت قدوسة ، نبتتها الزاهية ، التي وهبتها السماء. فكان عمرها بضع آلاف من عمر القبيلة . أما شعرها الفاحم فقد كان طويلاً ، وطويلاً جداً ، حتى إنها تغسله ببحر أبيض هناك. وتضع تاجاً على رأسها من أغصان الزيتون. وتترك قدميها بمياه خليج حارة.
همهمت قدوسة ، دون أن يسمعها أحد من الرجال : وحدة الصحراء ، وزوبعتها الضجرة ، تعول في كياني. أما ثغاء القطعان فإنه يتردد في صدري. وتصبغ دروبي وأيامي بصقيع موحش له لون الرماد. هنا ، بعيداً عن أرض الغوانمة التي أحببتها ، يتمطى سأم في داخلي ، ويهوي داخل شراييني. متى يستيقظ الرجال ، ويجري في عروق صحرائنا الدماء ، وتتفجر على أحاديث خيامهم المتبلدة.
- أنا أعرف أنكن لا تستطعن نسيان قدوسة!
قالت القابلة فطومة. ثم تطلعت إلى عيون النسوة ، فوجدتها مغرورقة بالدموع. فتابعت حديثها. كانت بيننا تغتسل ، تتمدد على حافة الغدير ، بعيداً عن أنظار الرجال. فتبدو كجنيّة نهر حالمة. قادمة من عالم آخر.
فقاطعتها جواهر بحرقة :
- .. ولا قصيدة قمرية قادرة على وصف جمالها.
قالت زينة بعد تردد :
- يقال أن بدوياً مسافراً ، قد راقبها من بعيد ، فازداد هلعه وكلما اقترب قليلاً بخطى حذرة ، زاد توجسه. فانشغل البدوي بهذا المنظر الجنائزي الجميل لعروسة الصحراء. حينما رآها مقتولة. تأكد له إنها جميلة الجميلات قد قتلها والدها ، بعد هروبها الأول مع الغرباء.
ردت العجوز فطومة بعنف صاخب :
- وهل عثرنا على جثتها!؟ ما هذه الأقاويل؟ ألم أنهكن عن القيل والقال.
أضافت جواهر بسرعة :
- لكنه دفنها حيث وجدها.
كان ليلاً مخيفاً ، حين خرجت قدوسة من خيمتها. والجن خرج من مخبئه ، من تحت الأرض ، زرافات ، يبتسمون لغضب الطبيعة ، فشاهدوا قدوسة تغسل شعرها الطويل فغيّبوها تحت الأرض معهم. فزفّت إلى ملك الجان. هكذا تحدث بعض الرجال.
إلا أن البدوي قال بتردد لجمع الغوانمة الصغير :
- إنني شاهدتها .. وجسدها يئن ويتعفر على الرمال في دم لزج بلون الشهد.
هذا ما يتذكره البدوي المسافر .. في تلك الليلة ذات الرياح الغامضة ، أما عزف المطر .. فهو آلة خرقاء يصفع الوجوه.
وأضاف بحذر :
- الجن .. لم يغيبها كما يدعي البعض.
إلتفت شيخ الغوانمة إلى البدوي ، ثم أدار رأسه للرجال الملتفين حوله :
- إن لم يخطف الجن قدوسة ، فلا شك إن قبيلة الهواشعة هي التي اختطفتها.
قال سمعان وهو يلعق شفتيه :
- صحراؤنا مزروعة بالحقد. والهواشعة التي خيّمت مؤخراً في شرق وسط الصحراء هي التي اختطفتها. ليس في ذلك شك.
تدخل البدوي غاضباً :
- إن قدوسة ابنتكم لم تختطف ... إلا أن تلك القبيلة لا بد أن ترحل.
لم ترحل قبيلة الهواشعة ، بل بسطت خيامها في الصحراء ، وتكاثر أبناؤها الوافدون إليها من أقاصي الرمال السوداء. وفي تلك الخيام المرصعة بالأنجم الحادة ، التي أضحت باسطة حوافها على واحات الصحراء المتناثرة ، ترقد قدوسة بنت إبراهيم ، عارية ، نازفة. تئن من الألم والهوان. وتردد أنفاسها البطيئة من بين جلد وعظم. وتنظر بشوق إلى من يخلصها من الأسر.
قالت بنت إبراهيم تخاطب خيالاً بعيداً :
- أقدم أيها الفارس. ألا تراني وأنا أرتعد أمامك بذل. إقتحم مضارب القبيلة ، واحملني على ظهر جوادك ، لكي أصعد معك إلى الشمس. ولا تسمع لشهادات الرجال المضللة.
في الأيام التالية لاختفاء قدوسة ، تغيّرت أقوال رجال الغوانمة ونسائها. فزوجة الراعي بدأت تردد :
- نعم .. رأيتها بعيني هاتين ، تخرج متسللة فجراً من الخيمة ، وتهرب مع عشيقها.
ثم تضيف بحزم :
- إن الصحراء لا تعرف الفسق ، وقانون القبيلة هو تطهير دنسها.
وبالرغم من كل ذلك ، فإن التوجس ، والحيرة ، التي عمت القبيلة بعد اختفاء قدوسة ، لم تهدأ بعد. القلق داهم الخيام ورجال القبيلة ونساءها بعد ازدياد الأقاويل. هناك آمال كبيرة باسترداد قدوسة. فهي ليست بنت من بنات الغوانمة فقط. بل هي ثأرهم الذي لن يهدأ ، حتى يرتوي. وكرامتهم التي لا بد أن تسترد. وأميرة الصحراء المتوجة بأغصان الزيتون. لذلك لم يتوقف الحديث عن اختفائها. إلا أن الأقوال تغيرت. فعاد عازف الربابة أبو داحم ليحكي من جديد :
- إنني أرغب يا قوم في القول لكم ، إنني شاهدتها بمفردها فجراً يوم اختفائها ، بالرغم من أنني لست متأكداً حين كنت آنذاك بين الصحوة والنوم ، وهي تركض بعيداً.
- ثم ماذا؟ قال الشيخ.
- إنني أحب قدوسة. نعم أحبها ويجب أن أعترف بذلك. حتى لو أحسست أنني ساعدت على هروبها.
فوجم الجميع. ونظر بعضهم إلى بعض.
في الخيمة الأخرى ، بدا أخوها الصغير سعدون ، فرحاً دون الآخرين ، وفاجأ النسوة بسهم مسموم :
- قدوسة لم تهرب. بل سافرت إلى أعلى. لقد كنت يقظاً في تلك الليلة ، ورأيت السماء تدعوها بشوق.
تطلع سعدون للنسوة بانتباه وأضاف :
- كانت السماء تبرق ، فتفرش رمال الصحراء زئبقاً صافياً. فضمها البرق إليه بحنو ، وطار بها قبل أن يستطيع الأعداء اختطافها.
تلفتت النسوة إلى بعضهن ، وسرت همسات بخفوت متقطع. ثم تعالت موجات همهمات غاضبة. بينما غطت السماء والخيام بغمامة سوداء لا مطر فيها. وراح البعض منهن يقفن بعد أن كن جالسات ، ويسترحن على الأرض من بقي منهن واقفات. وفي مآقي عيونهن دمعات حائرة.
إندفع صوت فطومة حاداً :
- إن قدوسة هي ملاكي الصغير ، إنني أولدتها من فخذ شجرة البلوط الوحيدة في صحرائكم. إلا أنني أحسست وكأنني أمها التي أولدتها من بطني.
صمتت القابلة فطومة ، وتجاهلت كلام سعدون وقالت :
- إنني تحدثت مع قدوسة يوم اختفائها. فذكرت لي أن الهواشعة عازمون على اختطافها.
اعترض سعدون على القابلة ، بسحبها من عباءتها المهترئة ، فمزقها. ركض خارج الخيمة ، فصاحت به. ثم لحقته ، وتبعتها النسوة. وحينما علا صراخهما تجمع بعض الرجال قرب الخيمة. فقال سعدون باكياً :
- إن أختي قدوسة سافرت مع البرق.
قالت فطومة بهدوء وحزم ، وهي تلفلف مخمرها المهترئ حول رقبتها:
- إنها ليست أختك .. وصوت استغاثتها أسمعه الآن يطنطن في أذني.
تجمع مزيد من الرجال. فالتفتت فطومة للجمع المحتشد :
- ألا تخلصون قدوسة من أسرها. إنها تستصرخكم ، وصيحات ألمها ونداءاتها تصم آذانكم ، فما لكم تخاذلتم عن نصرتها؟
قالت جواهر ، وهي تطل برأسها من الخيمة :
- لماذا تركتم الهواشعة تستبيح أرضنا وتختطف بناتنا؟ ثم بكت بحرقة.
إلا أن الوجوم ران على رؤوس ذلك الحشد الصغير. ففرت القابلة من أمام الجمع داخلة الخيمة. فأيقنت النساء أن قدوسة ، قد حفر القوم قبرها خلف خيامهم ، بجانب التل. لكي يبالغوا في تكريمها. لذلك بدا أن الجمع يتفرق للمرة الأخيرة ، بعد أن أعلن موتها.
إتجه الرجال إلى جانب التل. منتحبين قرب قبرها. بينما راح الصبية يقتلعون حجارة التل الكبير ، فاقترب بعض الصبية من أرض الهواشعة ، فرموهم وانضم إليهم البقية.
Shaikh31141@yahoo.com
ـــــــــــــــــــــــــ ـ