تزحف السيارة ببطء على الإسفلت الساخن؛ مثلما تحبو أحلامه في حقل جمر ملتهب، الأضواء مثل خيوط تائهة، وهو غريب يبحث عن أرض تتحمله، في غياب المكيف تلتصق الثياب بالأجساد، والعرق يغدو لزجا مثل مخاط مقزز. يخرج يديه من النافذة؛ ليستعير بعض النسيم البارد إن أمكنه ذلك، يتسلل نحوه الهواء ساخنا، فيسحبهما نحو الداخل وكأنه يعيدهما بعد صفعة تلقاها من الزمن، أحيانا يتداول الحديث مع صديقه الذي يكاد يستسلم للنوم؛ جراء القيادة ليلا.
يعدل بين لحظة وأخرى من جلسته، ليعيد لمؤخرته سيرتها الأولى؛ بعد أن انبسطت من الجلوس مطولا. يخرج سيجارة ليسافر أسرع من السيارة، يسحب الأمل نحو رئتيه، ثم ينفثه دخان حلم أحرق داخله، وربما هو حلم مشتعل في صدره، بحضور القهوة يصبح الجنون رياضته المفضلة، يضيف للجنون جرعة من سيجارة مخبأة في درج الأوراق، سيجارة مصممة من الحشائش، يسميها حشيش الروح.
يستسلم تماما لرغبة الشرود، ينقب في جمجمته عن ذاكرة ما، عن تاريخ يشبع شغفه للجنون، نعم إنه الحب، ومن غيرها المرأة؛ تستطيع أن تخدر أطرافنا؟، هي الجنون بحد ذاته، يراجع الماضي واللحظات التي استطاعت فيها امرأة واحدة؛ أن تجعله يشتهيها وتربكه، امرأة واحدة تكفي، أعجبته تلك التي رآها يوما وهي تنزل من فوق آثار فرنسية، عارية بدون ملابس، خطوة واحدة منها توقفت على يد النحات، في وسط المدينة وحدها من بين كل النساء من اشتهاها، ربما لأنها غريبة عن مدينته، لأن الغريب فيه من اللذة الكثير، يشبع الفضول ويثير شهوة الأسئلة، نحسه طريقا من النقاط، بل مدينة من علامات الاستفهام، وهذه المرأة العارية هي الإجابة التي يريدها في وجدانه..
كيف استطاع أن يقع في حب صخرة؟، ولكنها عذبة مثل الماء الذي يخرج من تحتها، يومها تقدم نحوها، وانحنى احتراما وكأنه يطلب يدها للزواج، وملأ كوبه من الماء، وشربه دفعة واحدة وهو يمشط جسمها الصخري، كم هي عذبة "عين الفوارة"، وكم هي غامضة هذه الأنثى التي تحرس المكان، يذكر جيدا كيف بات حزينا عندما اغتالها الإرهاب بتهمة التبرج والسفور، قال في نفسه: ولكنني لم أحس يوما جهتها بأي لذة جنسية، بل كنت أحترمها و فقط...
وكم كان سعيدا عندما رآها تستعيد الحياة الثابتة عندما رمم الصخر، ولكن نهدها يحسه فقد بعض الاستدارة، وكذلك خطوتها حرفت قليلا، وهناك بعض التجاعيد يدأت تظهر بمرور الوقت على جلدها، لم يصدق أن الصخر يمكنه أن يشيخ..
أحس بإبطاء في سرعة السيارة، وصديقه يهمس: حاجز للدرك.. حضر الفاتورة
أضاف: أتمنى أن لا يضايقونا..
أوقفهم رجال الدرك جانبا، تقدم منهم دركي برتبة رقيب، طلب منهم أرواق السيارة، وهو يمرر عينيه على عجلات العربة، لاحظ ثقل السلع التي تحمل من الوراء، طالبهم بفاتورة البضاعة وهو يسأل عن نوع البضاعة، لم يكن ليمر عليه أمر تزوير الفاتورة، رشقهم بنظرة تدل على مكر مبيت وهو يقول:
يمكنني ببساطة وسهولة مصادرة البضاعة والسيارة أيضا..
نزل صديقه وانزوى مع الدركي جانبا، لاحظ أن هناك حديثا ونقاشا حادا كان يجري بين صديقه والدركي، لوهلة انتابه الخوف وهو يفكر كيف يمكن أن تذهب تجارته كلها في غمضة عين، كيف يمكنه العودة للبيت، بل هل يستطيع الخروج من هذا المأزق؟، فهذا تهرب ضريبي، وربما لاقى مصير السجن لمدة طويلة، أين يمكنه الهرب بمصيره؟ فأبواب العمل مغلقة في وجهه، حتى التجارة التي أنشأها بتعب وجهد كبير، عانى الويل وهو يؤسس لها، وكم انتابه الخوف أيام الإرهاب وسنين الجمر.
ثم تممتم كلمات تشبه غمغمة ميت يوشك على الرحيل: مثله مثل البقية، يبحث عن سبب للرشوة..
ولكن كيف يمكن أن نتخلص من مضايقاتهم؟، كانت فكرة شاردة لا تعرف جوابا، فلو أقدم على التجارة بحسب القوانين لبارت تجارته، وإن هو واصل العمل هكذا، فهو مثل من يقوم بتحريم تعبه على نفسه، واصل حيرته ليصل لجواب عن مصير أمثاله الذين امتلأ بهم الحاجز الأمني، وكأن الوطن هو قسم شرطة تقدم فيه القرابين...
عاد صديقه بسرعة وهو يطلب مبلغا من المال لفدية تجارتهم.
وصلا سوق الحراش باكرا، عند منتصف النوم، ومجموعة من المتسكعين يجوبون المكان، بحثا عن زملائهم من مدينتهم، ركنا السيارة قرب شاحنة لبيع قطع الغيار لأحد الأصدقاء.
نزلا وألقيا التحية، ردها زميلهم ومجموعة شباب تعمل لديه، وأردف:
-هناك مجموعة من اللصوص تجوب السوق، عليكم أن تكونا حذرين..
تساءل بداخله، هل امتلأ الوطن بقطاع الطرق، لصوص نظامية تزعجنا في الطريق ولصوص هنا تسرق منا لحظات الراحة؟
فتحت أبواب السوق مع آذان الفجر تقريبا، حيث كان يردد المؤذن: الصلاة خير من النوم، وكأنه كان يقصد من كان يزدحم بهم السوق.
تعالت الصيحات والصراخ وزاد الزحام، وكانا يعملان بنشاط ملحوظ، أحس برغبة في البول، طلب من أحد التجار أن يساعد زميله حتى يحضر.
وانزوى في مكان ممتلئ برائحة البول، جدار مهترئ، يشبه لوحة فنية، هنا كتبت عليه،-تربى ولا تبل على الجدار-، وأخرى: ملّ الجدار من رائحة البشر العفنة.
أحس بخطوات تقترب منه، وشيء حاد قد وضع على مكان كليته تماما، انتبه ليجد مجموعة من اللصوص تحيط به، وزعيمهم يهمس: إن صدر منك صوت وقعت ميتا، هات ما عندك من نقود.. أجاب والخوف يعتلي ملامحه: ليس عندي درهم واحد.
عندها لاذ اللصوص بالفرار، ليحس هو بدفء في كليته، تحسسها جيدا، كانت دافئة ولزجة، وكأنها تريد الخروج من مكانها، جثا على ركبتيه وهو يتألم، حاول السير، خانته رجلاه.. واستسلم للدفء، للنوم..فقد تركه اللصوص أخيرا ينام.
******************************
عين الفوارة: هي تمثال امرأة عارية في وسط مدينة سطيف، تعرض مرة للتفجير. وأعيد ترميمه، وتحت التمثال أربع عيون للماء، وهو ماء عذب مميز بارد صيفا ودافئ شتاء