وضع قدرا من الكوكايين فوق الطاولة، ثم أمسك أنبوبا بلاستيكيا و سدده صوب المسحوق؛ الذي حاول تنظيمه على شكل طابور من الهزائم، و استنشقه دفعة واحدة و هو يمرر يده بسرعة و رشاقة تنم عن خبرة طويلة و ربما هو الغضب ما غرس فيه تلك التلقائية و العفوية اللاوعية بمصيرها، غير مبال بما يمكن أن يحصل له جراء جرعة زائدة.
جلس القرفصاء و انكمش بداخله مثل عنكبوت متهالك، تتلاعب به الصور و الأحداث السابقة، و راح يغوص شيئا فشيئا في الماضي، يتنهد ليستعيد بعضه الباقي، ثم يلتفت مثل مجنون في قلق و خوف، وقف كمن سمع صوتا يقترب، و كأن طيفا يطارده؛ يحدق في جدران البيت المتهالك، بيت مشرف على الانهيار، مكان عثر عليه خاويا و مهجورا ليمارس به طقوس الموت البطيء، راح يتتبع الأصوات التي يتخيلها، و ربما تضطرب داخله، يمشي ببطء ، يتحسس مصدر الصدى المنبعث، تناول خنجرا من جيبه تحضيرا لاشتباك وشيك
-أيمكن للحب أن يكون قاتلا؟
يضطرب و تتردد خطواته، تتلعثم أنفاسه و تصبح مكبلة في رئته، قلبه يبطئ من ضخ الدماء، يصفر وجهه، ثم تعود الأعضاء لوظيفتها و لكن بسرعة كبيرة، بقلق متزايد و خوف لا يعرف مصدره يصل أمام المرآة، يهدأ قليلا، يحدث نفسه قليلا في وسط عتمة تشتتها بعض الأشعة؛ المنبعثة من خلال ثقوب حفرت في الجدران، يقترب من المرآة، يقلص المسافة، تنقص معها حدة القلق، يمد يده نحو المرآة ليستشعر وجوده، يلامسها.. تسقط...تنكسر... تتشتت في الرواق...تصبح حادة...وكأنها صورة مهشمة، ذاكرة من شظايا كانت تملأ الأرضية... يرتمي عليها محاولا تجميعها..تجرحه..و تختلط دماؤه مع الزجاج الحاد و الموزع عشوائيا أمام عينيه.
يصرخ: سااااااارة.... و روحه تريد التحرر من هيكله المتداعي.
سارة، الفتاة التي قاسمها زمن طفولتهما، تشاجرا و تلاعبا حتى غروب الشمس.
سارة تلك العاصفة التي احتلت تضاريس أحلامه منذ أول مرة طاردها في الحقول...يتذكر كل الحماقات التي ارتكبوها في الصغر، و كيف كانت هي هاجس نومه ليستطيع الاستيقاظ باكرا، فيدنو من نافذتها و يرشق زجاجها بحصاة لتلحق به نحو الحقول القريبة... كبرا معا، و كبرت الأحلام ..كذلك الحب..كان جارفا، لم ينتبه له أحد في البداية، و لكن حريقا كبيرا مثله يصعب إخفاؤه وسط مساحة باردة كبيرة تخلو من النار.. وحدها والدته رفضت الزواج بحجج كثيرة؛ لم تقنع أي واحد، حاول الجميع إرضاءها لتقبل بالزواج و تباركه، وحدها كانت حاجزا في وجه سعادته.. لم يستسلم لأوامر والدته، واصل الاحتراق و مواعدة سارة بين لحظة و أخرى، بعيدا عن الناس و المتطفلين، بعيدا عن أمه التي تحولت لقيد يرفض حريته.. وكان مثل أشواك تنغرز فيه.
و تنغرز شظية بإصبع قدمه، و كأنه داس على لغم في الذاكرة، يتنهد..يمسك روحه بجهد بليغ، و هو يتمتم: -حتى تلك المحاولة ذهبت أدراج الرياح.
رغم كل ما قدمه لوالدته من حب و تنازلات، هدايا غالية، إلا أنها ظلت على موقفها و كأنها ترفض تماما مجرد ذكر الفكرة أمامها. ذات يوم عندما كان يستجدي عطفها، بادرته بأمر و سؤال خطير: -أيمكن أن تكون قد أخطأت معها؟ أرجوك ابتعد عنها.. عندها تبادرت لذهنه فكرة خطيرة و لكنها بدت لامعة و وحدها يمكنها إنهاء كل ذلك العذاب و الرفض. و قبل أن يفصح لسارة بما يجول بخاطره، تحسس منها بعض الحزن المفاجئ و كأنها مقبلة على الموت: -ما بك؟ -
:هذا.
وهي تمسك بطنها، تحس بحركات غريبة مفاجئة بداخلها، و كأن كائنا غريبا تسلل داخل جوفها. أحست ببعض الدوار و كاد يغمى عليها مع شعور بالغثيان داهمها.
:هل أنت مريضة حبيبتي؟
:إنه أمر خطير، أنا حامل..
أخفى سروره و أحس ببعض الارتباك مما يحدث و بعض من الخوف من حديثه.
: كيف .. أيمكن أن يحدث؟ و لكن...سنبحث عن حل، و ربما هو الوحيد الذي نملكه..سنصارحهم بالأمر..و عندها فقط سترضخ والدتي للأمر الواقع.
أمسك يدها و جرها خلفه صوب بيته، دخل و هو ينوي إخبار والدته بما حصل، و مع اقترابه من المطبخ سمع حديثا يشبه همسا، يقترب ببطء محاولا عدم لفت انتباه المتكلم، فقد كان أمر غريب أن يسمع والدته تتحدث بهذا الخوف في وقت لا يكون معها أحد. يمشي ببطء و هو يعلم أن هناك لغما سينفجر في وجهه،ومرة أخرى يدوس شظية طائشة، و كأن الذاكرة حقل زجاج مفخخ، فانفجرت في وجهه صورة سارة و هي تلفظ أنفاسها الأخيرة.. تلفظ عينه دمعة حارقة تتدحرج مثل كرة نار على خده، و يتدحرج هو نحو شريط ذكرياته.
:ألا تدرك أنني لن أسمح بإقامة هذا الزواج؟
:و لكنه يحبها، و هي أيضا تعشقه.
انكمشت سارة خلفه، عندما سمعت صوت والدها و هو يصدر من المطبخ، و تجمدت مثل تمثال يوشك على الوقوع، كان تائها عن نفسه، محاولا استدراك الحديث .
:و لكن، ألا تفهم؟ هو حب مرفوض عندي، أرجوك..
: لا يمكن أن يفشلا مثلما فشلنا نحن، أتذكرين كيف اغتيل حبنا، لا أريد للحب أن يموت بداخلهما مثلنا.
تحول كل شيء في عينيه إلى جحيم، لم يستطع التحرك، كان ورقة تتقاذفها الريح في يوم عاصف، سحب يده من يد سارة و كأنه يعيد ترتيب نفسه .
:أتذكر...تزوجت مع سمير بعد تلك الليلة بأسبوع واحد، و كان قد تشكل في رحمي قبل أن ينهشني..نعم إنه ابنك
ركضت سارة مثل مجنونة و قذفت نفسها من النافذة من الطابق الرابع.
: سارة، قالها و هو يسحب قلبه بخنجر.