[SIZE="5"][align=justify]
شعر المدائح النبوية في عهد الحروب الصليبية
أدب القرن السادس والسابع الهجري

تعاقبت على المسلمين ويلات وأحزان، ومصائب وأشجان، ولا سيما في العصر العباسي الاخير. وقد لاقى الكثيرون من شدة وطأتها القهر والألم، والضنى والسقم، وجعلتهم يعيشون في تعب ونكد، وقلق وكمد خاصة بعد الهجمات المتوالية: الصليبية الجائرة من الغرب، والتترية الغادرة من الشرق. وكانت وسائل الناس آنذاك ضعيفة لا تقوى على الوقوف بوجه الاعداء الطامعين والبغاة الجائرين، وابعاد بلواهم ودفع اذاهم، فما كان منهم الا التوجه الى الله- جلّ جلاله- والتضرع اليه كي ينجيهم من الكرب الذي وقع عليهم والضيم الذي لحق بهم. والالتجاء الى رسوله الكريم محمد- صلّى الله عليه وسلّم- متوسلين اليه ان يكون شفيعا لهم عند الله وينجيهم من النوائب التي كادت تقصم ظهورهم وتقضي على وجودهم. وكان الشعر خير وسيلة للتعبير عن الألام والامال ولا سيما شعر المديح النبوي الذي كثر النظم فيه، واقبل الناس عليه بشغف ولهفة، يجدون فيه فرحتهم وسعادتهم وراحتهم النفسية، ويتدارسونه وينشدونه في مجالسهم ومحافلهم واماكن عبادتهم. وغدا شعراء كثيرون لا ينظمون الا في هذا الغرض، لا يتجاوزونه ولا يحيدون عنه. آل الشرق الاسلامي في أواخر القرن الخامس للهجرة الى فئات مبعثرة، واحيانا متباغضة، لا يجمع بينها وفاق، ولا يضمها سلطان قوي، ففي كل ولاية أمير او ملك يناوىء جاره، ويكيد له، ويتربص به الدوائر؛ ليشن الغارات على ولايته، ويؤوب من عنده بالغنائم والاسلاب، ويدع له الاشلاء والدماء والدمار والخراب، انصياعا لهوى الاطماع، ودواعي المآرب والغايات. على حين كان الغرب يضمّ اليه أدانيه وأقاصيه، ويلمّ شعثه، ويرتق فتقه، ويرأب صدعه، ويتهيأ للانقضاض على الشرق المتداعي، والهيمنة عليه، طمعا في خيراته، ووافر ثرواته، لا- كما زعم أبناؤه- لتخليص قبر السيد المسيح- عليه السلام- من ايدي المسلمين. فلما استجمعوا قواتهم، واستحضروا عددهم، وخفقت راياتهم، وتعالت بالحقد الاعمى اصواتهم، اندفعوا موجات متتابعة، مدة قرنين من الزمان. ابتداء من سنة اثنتين وتسعين وأربع مئة للهجرة، فأهلكوا الحرث والنسل والضرع، وأشاعوا الدمار في القرى والامصار، حتى قدر المؤرخون عدد الذين قتلوا في مذبحة انطاكية بعشرة الاف نفس، وفي معرة النعمان بمئة الف، وفي بيت المقدس بسبعين الفا ( مختصر تاريخ العرب ص 286. ) . وقال ريموند دي اكليس الذي شاهد المذبحة الاخيرة: «ان الدماء قد وصلت في رواق المسجد الى الركب» (مختصر تاريخ العرب ص 287.) . فما لم يشاهده قد يربو على التقدير ويفوق النعت والتعبير. لقد فر الناجون الى الله من هول هذه الحرب الضروس، وتضرعوا اليه ان يدفع عنهم الكرب الشداد، ويحسر اسجاف البلايا الصفيقة. وتوزع الشعراء آنذاك الى فريقين، ذهب فريق الى الاعراب عن دخائل النفوس وكوامن الافئدة، والإفصاح عن ضراوة الاحداث، وجسامة الاهوال والكوارث بقصائد عامرة، منها قصيدة الامام أبي حامد الغزالي (ت 505 هـ) المعروفة بدعاء المنفرجة في ثمان وخمسين بيتا، مطلعها ( الحروب الصليبية واثرها في الادب العربي في مصر والشام ص 237.) :
الشدّة أودت بالمهج ... يا ربّ فعجّل بالفرج
ومنها:
والأزمة زادت شدّتها ... يا أزمة علّك تنفرجي
جئناك بقلب منكسر ... ولسان بالشكوى لهج
قال محمد سيد گيلاني معقبا على هذه القصيدة: «مات الغزالي عام 505 هـ، اي بعد هجوم الصليبيين على الشام بخمسة عشر عاما، وجال مدّة في بلاد الشام، وشاهد الافرنج يكتسحون المدن والقرى، ويغيرون على السكان الآمنين، وينهالون عليهم قتلا وأسرا، ورأى المسلمين لا حول لهم ولا قوة، ذلّوا وهانوا واستكانوا، واضحوا ولا راعي يرعاهم، ولا زعيم يجمع شملهم، ويتصدى للدفاع عنهم، ولا قائد يوقف الغزاة عند حدهم ... في هذا الوسط المظلم، وفي هذا الجو القاتم شرع الناس يلتمسون العون من الله ويسألونه التعجيل بالفرج. وماذا كانوا فاعلين وهم رعية بغير رعاة؟ أمراؤهم مشغولون بمصالح أنفسهم، يكيد بعضهم لبعض ... وهكذا عانى أهل الشام المصائب والاهوال يتلو بعضها بعضا، فرفعوا ايديهم الى السماء متضرعين ومتوسلين بالقرآن وسوره، والانبياء والمرسلين، ملحفين في الدعاء، طالبين التعجيل بالفرج، ذلك لأنّ الشدة التي أصابتهم أودت بالمهج، والناس اضحوا في ضيق وحرج، ومن غير الله يرفع هذا الحرج؟ وهكذا عبر الغزالي عن شعور المسلمين في هذا الوقت ونطق بألسنتهم، وترجم عن حالة الضيق الشديد التي المت بهم. ثم أخذ يتوسل الى الله بالانبياء وبالقرآن وبما أودع فيه من الأسرار الالهية، وذكر في شيء من الالم والحزن ان المسلمين ضعاف، وانهم لا يجدون أمامهم ملجأ غير الله، اليه يلجؤون وبه يستغيثون واياه يدعون» «4» ومن القصائد التي حظيت بالقبول الواسع، وذاعت شهرتها، واكتسبت رضا الكثيرين، وداعبت قلوب المكلومين ونفوس المظلومين، قصيدة يوسف بن محمد التوزري المعروف بابن النحوي (ت 513 هـ) المشهورة ب «المنفرجة» أو «الفرج بعد الشدة» ، (مفتاح السعادة 3/ 144. ) ، ومطلعها :
اشتدّي أزمة تنفرجي ... قد آذن ليلك بالبلج
وكانت هذه القصيدة محط أنظار الشراح، مثل الاضواء البهجة في إبراز دقائق المنفرجة، والأنوار المنبلجة في بسط أسرار المنفرجة، والسريرة المنزعجة في شرح المنفرجة، وغير ذلك ( ينظر تاريخ المعارضات في الشعر العربي ص 57.) ، وذهب فريق آخر الى التضرع بالرسول الكريم محمد- صلّى الله عليه وسلّم- والتوسل لديه، والتعلق بأعتابه، أن يزيل عنهم الاحزان الجاثمة، ويردّ الامن والدعة الى نفوسهم الهائمة، ويلج بهم ابواب الرحمة الواسعة، الى ساحات الرضا السرمدي والراحة الخالدة، وخير مثال على ذلك القصائد التي قيلت سنة أربع وخمسين وست مئة للهجرة حينما انفجر بركان بالقرب من المدينة المنورة وأخذ يقذف الحمم النارية ويهدد بالدمار والخراب. قال السيوطي: «وفي هذه السنة، في يوم الاثنين، مستهل جمادى الاخرة، وقع بالمدينة الشريفة صوت يشبه صوت الرعد البعيد تارة وتارة، واقام على هذه الحالة يومين، فلما كان ليلة الاربعاء تعقب الصوت زلزلة عظيمة، رجفت منها الارض والحيطان، واضطرب المنبر الشريف، واستمرت تزلزل ساعة بعد ساعة الى يوم الجمعة خامس الشهر، ظهر من الحرة نار عظيمة، وسالت أودية منها سيل الماء، وسالت الجبال نارا، وسارت نحو طريق الحاج العراقي، فوقفت واخذت تأكل الارض أكلا، ولها كل يوم صوت عظيم من آخر الليل الى الضحوة، واستغاث الناس بنبيهم- صلّى الله عليه وسلّم- واقلعوا عن المعاصي» ( حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة 2/ 46. ) ، واجود قصيدة نظمت آنذاك في ذكر هذه الحادثة ومدح الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- كانت للشاعر سيف الدين علي بن عمر بن قزل المعروف بابن المشد (ت 656 هـ) ، مطلعها (8) نفسه 2/ 47. وينظر ديوان سيف الدين المشد، تح: عباس هاني (رسالة ماجستير من كلية التربية بجامعة بابل سنة( 2000) ( ص 445. ) :
ألا سلّما عنّي على خير مرسل ... ومن فضله كالسّيل ينحطّ من عل
ومنها وصف للصورة المخيفة التي اذهلت الناس وأرعبتهم:
لها شرر كالبرق لكن شهيقها ... فكالرعد عند السامع المتأمل
وأصبح وجه الشمس كالليل كاسفا ... ويدر الدجى في ظلمة ليس تنجلي
وهبّت سموم كالحميم فأذبلت ... من الباسقات الشمّ كلّ مذلّل
وأبدت من الآيات كلّ عجيبة ... وزلزلت الارضون أيّ تزلزل
وأيقن كلّ الناس ان عذابهم ... تعجّل في الدّنيا بغير تمهّل
وأعولت الاطفال مع أمهاتها ... فيا نفس جودي، يا مدامعي اهملي
وينهي الشاعر قصيدة بالسلام على المبعوث الهادي محمد صلّى الله عليه وسلّم:
فيا خير مبعوث وأكرم شافع ... وأنجح مأمول وافضل موئل
عليك سلام الله بعد صلاته ... كما شفع المسك العبيق بمندل
ووصف المؤرخ شهاب الدين ابو محمد عبد الرحمن بن اسماعيل المعروف بابي شامة المقدسي هذا البركان الثائر وصفا دقيقا وأورد قصيدة لشاعر لم يذكر اسمه، أولها ( تراجم رجال القرنين السادس والسابع المعروف بذيل الروضتين ص 193.)
يا كاشف الضّرّ صفحا عن جرائمنا ... لقد أحاطت بنا يا ربّ بأساء
نشكو اليك خطوبا لا نطيق لها ... حملا ونحن بها حقا أحقاء
زلازلا تخشع الصمّ الصلاب لها ... وكيف يقوى على الزلزال شمّاء
أقام سبعا ترج الارض فانصدعت ... عن منظر منه عين الشمس عشواء
بحر من النار يجري فوقه سفن ... من الهضاب لها في الارض إرساء
ودعا الله ان يفرج عن المسلمين هذا الخطب الكبير الذي ألمّ بهم، ويبعد عنهم نقمته التي تمثلت في هذا البركان الغاضب الذي القى حجارة حامية وشواظا من نار، وأخاف الناس ان يمتد لهيبه الى المدينة المنورة التي تضمّ قبر الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- والصحابة الصالحين، واختتم قصيدته بقوله:
ونحن أمة هذا المصطفى ولنا ... منه الى عفوك المرجو دعاء
هذا الرسول الذي لولاه ما سلكت ... محجّة في سبيل الله بيضاء
فارحم وصلّ على المختار ما خطبت ... على علا منبر الاوراق ورقاء
وللامام ابي زكريا يحيى بن يوسف الصّرصري (ت 656 هـ) قصيدة في خمس وتسعين بيتا يمدح بها الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- ويذكر النار الحامية التي تتفطر منها القلوب «10» :
فشاهدتم مرأى فظيعا وشدّة ... تكاد لها الاحشاء أن تتفطرا
وجاء في القصيدة قوله:
فيا أيّها الحادي الذي اعتسف الفلا ... وحثّ المطايا مدلجا ومهجرا
اذا ما أرحت العيس بعد لغوبها ... وطول وجاها من معالجة السّرى
فقف وقفة الاحباب في ذلك الحمى ... وعفّر أديم الخدّ في ذلك الثرى
وبلغ تحياتي الى من سما به ... وأحرز من رياه نشرا معطرا
ومنها:
وسل ربّك النصر العزيز لأمة ... بجاهك ترجو ان تعزّ وتنصرا
لها كلّ عام كائد متهدد ... يدير لها بالرعب كأسا ممرّرا
أجرها وثبتها فمن كنت جاره ... فأجدر أن يحمى ويحيا ويجبرا
عليك سلام من إلهك دائم ... مديد جدير ان يزاد ويكثرا
لقد كانت هذه النار التي داهمت الارض الطاهرة واخاف الناس وصول شررها الى المدينة، مدعاة لمدح الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- قال ابن الوردي: «وظهرت نار بالحرّة عند مدينة النبي- صلّى الله عليه وسلّم- وكانت تضيء بالليل من مسافة بعيدة جدا ... ونظم الشعراء عند ظهور هذه النار مدائح في النبي صلّى الله عليه وسلّم» ( تتمة المختصر في اخبار البشر (تاريخ ابن الوردي) 2، 281.) . ومن هؤلاء الشعراء ايضا شرف الدين ابو عبد الله محمد بن سعيد البوصيري (ت 696 هـ) ، فله قصيدة في ثمان وتسعين بيتا سماها: «تقديس الحرم من تدنيس الضرم» مطلعها
إلهي على كلّ الامور لك الحمد ... فليس لما اوليت من نعم حدّ
وفيها يقول:
تدمر ما تأتي عليه كعاصف ... من الريح ما ان يستطاع له ردّ
تمرّ على الارض الشديد اختلافها ... فتنجد غورا او يغور بها نجد
وترمي الى الجوّ الصخور كأنّما ... بباطنها غيظ على الجوّ او حقد
ويطيل الحديث عن اوصاف النبي المباركة، ويرجو من الله في خاتمة القصيدة ان يحظى بزيارته والتعطر بأريج التربة التي تحرك عليها في نشر رسالة الايمان والهداية والرشاد:
فهب لي رسول الله قرب مودّة ... تقرّ به عين وتروى به كبد
وإني لارجو أن يقريني الى ... جنابك إرقال الركائب والوخد
ولولا وثوقي منك بالفوز في غد ... لما لذّ لي يوما شراب ولا برد
عليك صلاة الله يضحي بطيبة ... لديك بها وفد ويمسي بها وفد
ودامت كأنفاس الورى في تردّد ... عليك من الله التحية والرّدّ
إنّ منزلة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- ومكانته عظيمة في نفوس المسلمين، يستذكرون سيرته العطرة، ويستوحون منها ما ينفعهم في الدنيا ، والاخرة. وقد خصص كثير من الشعراء دواوين في مديحه، منها على سبيل المثال لا الحصر: «التنوير في مولد السراج المنير» لابن دحية الكلبي، وقد اهداه سنة أربع وست مئة للهجرة للسلطان مظفر الدين كوكبري بن زين علي صاحب اربل، و «أهنى المنائح في اسنى المدائح» لشهاب الدين محمود بن سليمان الحلبي، و «بشرى اللبيب بذكرى الحبيب» لابن سيد الناس اليعمري، و «نظم الدّرر في مدح سيد البشر» ( نفح الطيب 7/ 489. ) لابي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن ابي بكر العطار، و «القصائد الوترية في مدح خير البرية» «17» لابي عبد الله محمد بن ابي بكر بن رشيد الواعظ البغدادي، وديوان الامام يحيى بن يوسف الصرصري الذي قال عنه قطب الدين اليونيني: ان مدائحه فيه- صلوات الله عليه وسلامه- تقارب عشرين مجلدا ( ذيل مرآة الزمان 1/ 257.) ، وهكذا زها شعر المديح النبوي في تلك الحقبة الهائجة المائجة، وكثر الاقبال عليه، وعم تعاطيه من أرباب القريض، وراجت سوقه رواجا مشهودا، غصّ فيها على كل الاصناف والالوان، بعد ان تضافرت له الدواعي والاسباب، ووجدت له الاجواء المشجعة للقبول والاستحسان. فها هم أولاء الافرنج قد عاثوا فسادا في ديار الشام ومصر، وامتلكوا ناصية القدس الشريف، واشرأبت أعناقهم الى البيت الحرام، وشردوا الالاف الآمنين من ديارهم وتركوهم يهيمون على وجوههم في البراري والقفار، يطاردهم الطوى والعوز، ويلاحقهم البؤس والشقاء، ويعتادهم المرض والوباء. وقد جرّ هذا الوضع المزري الى اختلال التوازن الاجتماعي، وتردي الاحوال، وشيوع الفقر والجوع، ونقص الاموال والثمرات، واضطراب حبل الأمن، وانتشار المنكرات والموبقات، وفشو التطفيف في الموازين والمكاييل. وما سوى ذلك من ضروب الفساد والانحلال. وعند ذلك جال المسلمون بأبصارهم فيما حولهم- ما خلا بعض الاوقات- فلم يجدوا من يجمعهم ويدفع الضيم والعدوان عنهم، وعجزت وسائلهم المادية الضعيفة عن الدفاع والمقاومة ورد الغزاة الباغين عن حماهم واوطانهم، فالتجأوا الى الله جل جلاله ورسوله الكريم، جاعلين التضرع والتوسل سبيلين الى الرحاب العلوية والنفحات المحمدية. والذبّ عن الاسلام فرض عين على كل مسلم، فان عجز اللسان واليد عن هذا الذب، ففي التضرع والدعاء الكفاية والغناء كما عبر عن ذلك ابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) في احدى قصائده ( الحروب الصليبية واثرها في الادب ص 241.) :
هذا ونصر الدين فرض لازم ... لا للكفاية بل على الأعيان
بيد وإمّا باللسان فان عجز ... ت فبالتوجه والدّعا بجنان
وكان للمتصوفة- ولا سيما ايام السلاطين من الايوبيين والمماليك- دور مشهود في شيوع شعر المديح النبوي والاحتفاء به، اذ كانوا يعطرون تكاياهم وزواياهم ورباطاتهم بقراءة القصائد التي تتناول سيرة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وتذكر صفاته وفضائله «كما اتخذوا شفاعته والتوسل اليه طريقا الى الله» ( في التصوف الاسلامي، صفحة ش، وينظر دراسات في الشعر في عصر الايوبيين ص 256.) . وقد اتخذوا يوم ميلاده في كل سنة، وهو اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الاول، مناسبة مفرحة لبعث التوسل والشفاعة والتضرع. وكان الملك المظفر كوكبري بن زين الدين علي زوج ربيعة خاتون أخت صلاح الدين الايوبي وصاحب إربل (ت 630 هـ) أبرز شخصية آنذاك اهتمت بعيد المولد النبوي وجعلته من أطيب الايام واسعد الاوقات، ذكر ابن خلكان- وقد التقى بهذا الملك وحضر مجالسه- اخبارا مفصلة عنه، نقتصر منها على ما يأتي: «أمّا احتفاله بمولد النبي- صلّى الله عليه وسلّم- فإنّ الوصف يقصر عن الاحاطة به، لكن نذكر طرفا منه، وهو ان اهل البلاد كانوا قد سمعوا بحسن اعتقاده فيه، فكان في كلّ سنة يصل اليه من البلاد القريبة من إربل- مثل بغداد والموصل والجزيرة وسنجار ونصيبين وبلاد العجم وتلك النواحي- خلق كثير من الفقهاء والصوفية والوعاظ والقراء والشعراء، ولا يزالون يتواصلون من المحرم الى اوائل شهر ربيع الاول، ويتقدم مظفر الدين بنصب قباب من الخشب، كل قبة اربع او خمس طبقات، ويعمل مقدار عشرين قبة او اكثر، منها قبة له، والباقي للأمراء وأعيان دولته، لكل واحد قبة.. وكانت القباب منصوبة من باب القلعة الى باب الخانقاه المجاورة للميدان، فكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر ويقف على قبة قبة الى آخرها، ويسمع غناءهم، ويتفرج على خيالاتهم وما يفعلونه في القباب، ويبيت في الخانقاه ويعمل السماع، ويركب عقيب صلاة الصبح يتصد، ثم يرجع الى القلعة قبل الظهر. هكذا يعمل كل يوم الى ليلة المولد، ... فاذا كان قبل المولد بيومين اخرج من الإبل والبقر والغنم وشيئا كثيرا زائدا عن الوصف.... ثم يشرعون في نحرها، وينصبون القدور ويطبخون الالوان المختلفة؛ فاذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد ان يصلي المغرب في القلعة، ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شيء كثير، وفي جملتها شمعتان او اربع- اشك في ذلك- من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحدة منها على بغل، ومن ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على ظهر البغل حتى ينتهي الى الخانقاه؛ فاذا كان صبيحة يوم المولد انزل الخلع من القلعة الى الخانقاه على ايدي الصوفية، على يد كل شخص منهم بقجة، وهم متتابعون كل واحد وراء الاخر، فينزل من ذلك شيء كثير لا اتحقق عدده. ثم ينزل الى الخانقاه وتجتمع الاعيان والرؤساء وطائفة كبيرة من بياض الناس، وينصب كرسي للوعاظ، وقد نصب لمظفر الدين برج خشب له شبابيك الى
الموضع الذي فيه الناس والكرسي، وشبابيك آخر للبرج أيضا الى الميدان، وهو ميدان كبير في غاية الاتساع، ويجتمع فيه الجند، ويعرضهم ذلك النهار، وهو تارة ينظر الى عرض الجند، وتارة الى الناس والوعاظ، ولا يزال كذلك حتى يفرغ الجند من عرضهم، فعند ذلك يقدم السماط في الميدان للصعاليك، ويكون سماطا عاما فيه من الطعام والخبز شيء كثير لا يحد ولا يوصف، ويمد سماط ثان في الخانقاه للناس المجتمعين عند الكرسي، وفي مدة العرض ووعظ الوعاظ يطلب واحدا واحدا من الاعيان والرؤساء والوافدين لأجل هذا الموسم ممن قدمنا ذكره من الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء، ويخلع على كل واحد ثم يعود الى مكانه، فاذا تكامل ذلك كله، حضروا السماط وحملوا منه لمن يقع التعيين على الحمل الى داره، ولا يزالون على ذلك الى العصر او بعدها، ثم يبيت تلك الليلة هناك، ويعمل السماعات الى بكرة، وهكذا يعمل في كل سنة، وقد لخصت صورة الحال، فان الاستقصاء يطول، فاذا فرغوا من هذا الموسم تجهز كل انسان للعود الى بلده، فيدفع لكل شخص شيئا من النفقة» ( وفيات الاعيان 4/ 117.). وزادت في هذه الحقبة الرغبة في الذهاب الى الديار الحجازية والمكوث الى جوار الكعبة في مكة المكرمة او الى جوار ضريح الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم في المدينة المنورة وتدبيج القصائد المدحية التي تشيد برسالته وتذوه بفضائله ومناقبه. وكان الملك مظفر الدين صاحب اربل كما يقول ابن خلكان: «يقيم في كل سنة سبيلا للحاج، ويسير معه جميع ما تدعو حاجة المسافر اليه في الطريق، ويسير صحبته أمينا معه خمسة او ستة الاف دينار ينفقها بالحرمين على المحاويج وارباب الرواتب، وله بمكة- حرسها الله تعالى- آثار جميلة.. وهو اول من اجرى الماء الى جبل عرفات ليلة الوقوف، وغرم عليه جملة كثيرة، وعمر بالجبل مصانع للماء، فان الحجاج كانوا يتضررون من عدم الماء، وبنى له تربة ايضا هناك» ( وفيات الاعيان 4/ 117 .) لقد تفجرت قرائح الشعراء بمدح الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وطفقت تسبح بحمده، وتطوف حوله، وتتمسح باعتابه، وتسفح العبرات شوقا الى رحابه ولهفة الى سامق جنابه. وتجدر الاشارة الى ان هؤلاء الشعراء كانوا يتالمون من تهجم الافرنج على الدين الاسلامي والرسول- صلّى الله عليه وسلّم- ولذلك تراهم ينبرون بالرد عليهم بشدة، ويريشون السهام الى نحورهم ويناقشون عقيدتهم وينافحون عن نبيهم ورسالته الخالدة التي بشر بها العالمين وهدى الضالين ( الحياة الادبية في عصر الحروب الصليبية ص 516.) ، ولقد توقدت العاطفة الدينية أيام الحروب الصليبية التي دامت مئتي عام، واخذ مديح الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- طريقه الى الشعر العربي بشكل قوي وواضح وبكثرة، وصار سمة من سمات هذا العصر ومن اظهر الاغراض الشعرية ومن احبها في نفوس الناس آنذاك، يقول الدكتور شوقي ضيف: «وانبثقت من الشعر الصوفي منذ ابن دريد في اوائل القرن الرابع الهجري مدائح نبوية عطرة بالسيرة الذكية، وما نصل الى القرن السادس والسابع حتى يتكاثر هذا المديح ويزدهر. ونظن ظنا انه كان للحروب الصليبية اثر في ذلك ... وعرف الشعراء انها حرب دينية يشنها الغرب على الرسالة النبوية ورسولها الكريم، فاستحثوا الناس للدفاع عن دينهم، بل مضوا يستصرخونهم للذود عن وطنهم ومقدساتهم، محاولين بكل ما وسعهم ان يحيلوها شعلا آدمية تشوي وجوه الصليبيين وتأتي عليهم كأن لم يكونوا شيئا مذكورا، وفي الوقت نفسه مضوا يمدحون النبي الامين بعرض سيرته وبعث شذاها العطر، ورفعوها شعارات، بل لواءات، ليجتمع من حولها ابطال الاسلام والعرب، ويقضوا على الصليبيين قضاء مبرما ( تاريخ الادب العربي، عصر الدول والامارات ص 409. ). إن ما ذهب اليه الدكتور شوقي ضيف معقول ومقبول، اما رأي الدكتور علي صافي حسين ففيه نظر، فهو يقول: «المدائح النبوية فن استحدثه المصريون في القرن السابع، اذ لم يكن له من قبل وجود لا في مصر ولا في غيرها من الاقطار العربية والاسلامية على الاطلاق» . أقول: ان من يراجع تراثنا الادبي الكبير والزاخر بشعر كثير قبل القرن السابع للهجرة يجد قصائد ومقطوعات في مديح الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- فيها جانب من سيرته العطرة ومعجزته القرآن العظيم الذي انزله الله جل جلاله ليبشر به الناس ويهديهم الى الصراط المستقيم. فمن الشعراء الذين وصل الينا من نظمهم في مدح الرسول الكريم ابو عبد الله ابن ابي زكريا الشقراطيسي (ت 496 هـ) في قصيدة اولها :
الحمد لله منا باعث الرّسل ... هدى باحمد منا احمد السّبل
خير البرية من بدو ومن حضر ... وأكرم الخلق من حاف ومنتعل
ولأبي المظفر محمد بن احمد بن اسحاق الابيوردي (ت 507 هـ) قصيدة في مدحه مطلعها :
خاض الدّجى ورواق الليل مسدول ... برق كما اهتزّ ماضي الحدّ مصقول
وشارك ابو حفص عمر بن الحسن بن المظفر النيسابوري (ت 532 هـ) في مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم، من ذلك قوله من قصيدة ( معجم الادباء 3/ 218.) :
وخاتم المرسلين سيدنا ... احمد ربّ السماء سمّاه
أشرقت الارض بعد بعثته ... وحصحص الحقّ من محيّاه
ومن الاصوات العالية والمجيدة في مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم صوت ابي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت 538 هـ) فله قصيدة لامية مطلعها ( المجموعة النبهانية 3/ 34. ) :
أضاء لي باللّوى والقلب متبول ... نجديّ برق بنار الحبّ موصول
وقصيدة رائية مطلعها ( نفسه 2/ 135. ) :
قامت لتمنعني المسير تماضر ... أنّى لها وغرار عزمي باتر
ومن المكثرين في الاقبال على النظم في المديح النبوي الامام جمال الدين افضل الاسلام عبد الرحيم بن احمد بن محمد بن الاخوة البغدادي الشيباني (ت 548 هـ) ، وقد رآه عماد الدين الاصبهاني الكاتب، فقال: «خصّه الله بالفضل الوافر، والخاطر الواقر، والعلم الكامل، والادب الشامل. وهو أعجوبة العراق، وجوابة الافاق» ( الخريدة، قسم العراق 3/ 1: 138. ) ، وقال: «اتفق حضوري عنده في الجامع، وبيده جزء فيه مدائح النبي صلّى الله عليه وسلّم» ، واورد له في خريدته اربع قصائد ومقطوعتين، ( نفسه 3/ 1: 199. ) من ذلك قوله :
صلّى الاله على النبي محمد ... هادي البرية والامام المهتدي
الصابر البر الرؤوف المرتضى ... الماجد الندب الكريم السيد
الصادق المصدوق والبدر الذي ... عمّ البلاد بنوره المتجدد
نجى به الله الانام من الردى ... والناس في ليل الظلام الاسودلا ينقضي بين الورى اعجازه ... فدليله في اليوم باق في غد
فمن اهتدى بهداه فاز ومن عتا ... عنه تردّد في العذاب الموصد
وله قصيدة :
سلام على احمد المصطفى ... سلام على الطاهر المرتضى
سلام على صفوة العالمين ... سراج البريّة شمس الورى
سلام على خاتم الانبيا ... محمد الماجد المجتبى
به شيد الله ركن التقى ... به رفع الله شأن الهدى
وأيّد ملّته فانطوى ... رداء الضلال بها وانجلى
ونجد للشاعر علي بن محمد بن علي العمراني (ت 560 هـ) قصيدة في مدح الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم نظمها في صباه، مطلعها ( معجم الادباء 5/ 413) :
أضاء برق وسجف الليل مسدول ... كما يهزّ اليماني وهو مصقول
وقد صاغها معارضا قصيدة «بانت سعاد» لكعب بن زهير في مدح
الرسول، وافتتحها متغزلا بسعدى، وواصفا وجده وهيامه ودموعه المدرارة، مما يمكن ان يعد من مظاهر المبالغة والاسراف في النعت:
مهما تذكرتها فاض الجمان على ... خديّ حتى نجاد السّيف مبلول
وانتقل الى قامتها الرشيقة فأدق النظر في الاعضاء وتقاطيعها، وأرهف النفس في البيان المحسوس والوصف المادي الملموس، شأنه شأن الشعراء الذين كانوا يجرون وراء المرأة، ويهيمون بهذا الضرب من الجمال، ويتطلعون الى النوال والوصال:
ظمأى الموشح، ريّان مخلخلها ... عبل مؤزرها، والمتن مجدول
كأنما هي اذ ترخي ذوائبها ... بدر عليها رواق الليل مسدول
كأنما شعرها درّ اذا ابتسمت ... وريقها سحرا بالراح معلول
يا حبذا زمن فيه نسرّ بها ... والشعب ملتئم والحبل موصول
ثم تخلص في انتقالة موفقة الى مدح خاتم الانبياء صلّى الله عليه وسلّم والحديث عن رسالته العظيمة المبعوث من اجلها التي بشربها الناس وهداهم الى سواء السبيل ونور طريقهم للمسير الى صالح الاعمال وخير الافعال، ومدح اصحابه الطيبين الطاهرين الذين تحملوا معه امانة هذه الرسالة. ويبدو ان هذا الشاعر قد نظم شعرا كثيرا في مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم اعتمادا على ما ذكره ياقوت الحموي معقبا على هذه القصيدة بقوله: «ولهذا الامام اشعار من هذا النمط» . ومن الشعراء الذين خصصوا قصائد كثيرة لمدح نبي الهدى محمد صلّى الله عليه وسلّم، ابو نزار الحسن بن صافي بن عبد الله بن نزار الملقب بملك النحاة (ت 568 هـ) ( تهذيب تاريخ ابن عساكر 4/ 167.) يقول في احدى هذه القصائد :
يا قاصدا يثرب الفيحاء مرتجيا ... ان يستجير بعليا خاتم الرّسل
خذ من اخيك مقالا ان صدعت به ... مدحت في آخر الاعصار والأول
قل يا من الفخر موقوف عليه فان ... تذوكر الفخر لم يصدف ولم يمل
صيت اذا طلبت غاياته خرقت ... سبعا طباقا فبذّت كلّ ذي أمل
علوت وازددت حتى عاد ممتدحا ... جبريل عمّا له قد كان لم يطل
وعدت والكبر قد نافى علاك فما ... عددت شيمة سبط الخلق مبتهل
أتتك غرّ قوافي المدح خاضعة ... لديك فاقبل ثناء غير منتحل
ثناء من لم يجد وجناء تحمله ... اليك او صدّ بالاقتار عن جمل
صلى عليك إله العرش مشتملا ... عليك يا خير حاف ومنتعل
ونلقى للشاعر صفوان بن ادريس بن ابراهيم (ت 598 هـ) مدحا للرسول صلّى الله عليه وسلّم حيث يقول ( معجم الادباء 4/ 269. ) :
تحية الله وطيب السلام ... على رسول الله خير الانام
على الذي فتح باب الهدى ... وقال للناس: ادخلوا بالسلام
بدر الهدى سحب الندى والجدا ... وما عسى ان يتناهى الكلام
تحية تهزأ أنفاسها ... بالمسك لا أرضى بمسك الختام
تخصّه مني ولا تنتني ... عن آله الصيد السراة الكرام
وقدرهم أرفع لكنني ... لم ألف أعلى لفظة من كرام
الشواهد الشعرية التي ذكرناها تدل من غير شك على وجود شعر في مديح الرسول صلّى الله عليه وسلّم قبل القرن السابع للهجرة، اي لم يكن حكرا على هذا القرن وما تلاه، فهو موجود منذ وجدت البيئات الزهدية ثم الصوفية من بعد ( ينظر: المدائح النبوية لزكي مبارك ص 17.) ، ولكنه لم يكن بتلك السعة التي نلاحظها في القرن السابع، اي بعد ضعف الدولة العباسية وتشتت شملها ثم زوالها وتوالي هجمات الصليبيين من الغرب والتتر من الشرق. نظم عدد كبير من الشعراء قصائد عامرة في مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم، تناولوا فيها سيرته وما تنطوي فيها من احداث مولده ورضاعته ونشأته وبعثته وكفاحه ومهاده ووفاته. كما تناولوا الدين الاسلامي الذي هدى الناس واضاء لهم النور، واخرجهم من ظلمات الجهل والضلال، وأبان لهم طريق الهداية والحق.. ثم افرغوا ما في نفوسهم من حسرات لاهبة وآهات حرى.. وكان على رأس هؤلاء الشعراء الامام العلامة الضرير جمال الدين ابو زكريا يحيى بن يوسف الصّرصري البغدادي (ت 656 هـ) ، وهو «حسان وقته» ( الذيل على طبقات الحنابلة 2/ 262.) ، يقول ابن شاكر الكتبي عنه: «صاحب المدائح النبوية السائرة في الافاق، لا اعلم شاعرا اكثر من مدائح النبي صلّى الله عليه وسلّم اشعر منه، وشعره طبقة عالية» ( فوات الوفيات 4/ 298 ) ، وينظر نكت الهميان للصعدي ص 308. ، وقد انصف احد الباحثين في قوله: «من اهم الشعراء الذين نبغوا في فن المدائح النبوية واجادوا فيها في جميع العصور الادبية»( المدائح النبوية بين الصرصري والبوصيري ص 98.) . جاء في مقدمة احدى قصائده الطويلة: «وقال رحمه الله يمدحه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ويذكر فيها احواله، وتقلباته منذ اراد الله خلقه، الى ان قبضه وادخله الجنة صلّى الله عليه وسلّم وسماها الروضة الناضرة في اخلاق محمد المصطفى الباهرة، وعددها ثمان مئة وخمسون بيتا، رحم الله ناظمها على قافية النون» ( ديوان الصرصري 547. وينظر تاريخ الادب العربي لبروكلمان 5/ 18.)، واولها:
سبحان ذي الجبروت والبرهان ... والعزّ والملكوت والسلطان
والحمد لله الكريم الرازق ... الخلاق متقن صنعة الانسان
والله اكبر لا إله سواه لي ... سبحانه هو للصواب هداني
أصبحت أنظم مدح اكرم مرسل ... لهجا به في رائق الاوزان
وتخذته لي جنّة ومعونة ... فيها أروم فصانني وكفاني
حبّرت فيه قصيدة أودعتها ... من مسند الاخبار حسن معاني
في وصفه من بدء تشريفاته ... حتى الختام بحسن نظم معان
وقد وصل الينا ديوانه وفيه اكثر من احد عشر الف بيت اغلبه في المديح النبوي وبيان حال المسلمين في عصره. وليس لنا- أمام ما نراه ملائما لهذا البحث- الا ان نعرف بأشهر القصائد ونكشف عن بنيتها الفنية، والموضوعات التي احتوتها واهتمت بها اكثر من غيرها. كان اغلب القصائد التي خصصت لمدح النبي صلّى الله عليه وسلّم ممهدة بأبيات قد تطول او تقصر تخلص الى الغرض الاساس، وللشعراء مسالك شتى فيها، وكان للغزل القدح المعلّى والنصيب الاوفر، وهذا الغزل اذا ما امعن الناظر اليه يجده لا يختلف في شكله ومضمونه عن الغزل الحسي الذي يتناول وصف مفاتن النساء ومحاسنهن، واقبالهن وادبارهن، وغنجهن ودلالهن ... وما يعاني المحب من سهر وأرق، واشتياق وقلق.. وغالبا ما يلمح القارىء ذلك في القصائد التي نظمها الشعراء معارضة لقصيدة كعب بن زهير المشهورة التي يقول في مطلعها ( شرح ديوان كعب بن زهير ص 6. ) :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
قال ابو جعفر الابيري في معرض حديثه عن هذه القصيدة: «هي حجة الشعراء فيما سلكوه، وملاك أمرهم فيما ملكوه، حدثني بعض شيوخنا بالإسكندرية باسناده ان بعض العلماء كان لا يستفتح مجلسه الا بقصيدة كعب» ( نفح الطيب، 2/ 688. ) . وقد ساهم عدد كبير من الشعراء في عصر الحروب الصليبية وما بعدها. نظم قصائد على وزنها ورويها ومنهجها، منهم ابن الساعاتي (ت 604 هـ) ، وشرف الدين عبد العزيز بن محمد الانصاري (ت 662 هـ) ، ومحيي الدين بن عبد الظاهر (ت 692 هـ) ، وشبيب بن حمدان (ت 695 هـ) ، وشرف الدين محمد بن سعيد البوصيري (ت 696 هـ) ، واحمد بن عبد الملك العزازي (ت 710 هـ) ، وفتح الدين بن سيد الناس اليعمري (ت 734 هـ) ، وابو حيان الاندلسي (ت 745 هـ) ، وابن نباتة المصري (ت 768 هـ) ، والفيروز أبادي (ت 817 هـ) ... وتجدر الاشارة الى أن للامام جمال الدين أبي زكريا يحيى بن يوسف الصّرصري قصيدتين على وزن هذه القصيدة وقافيتها: ( ديوان الصرصري 394، 396) . ولو امعنا النظر في هذا الغزل لوجدناه- في الاعم الاغلب- قريب المأخذ، سهل المعنى، قليل التلاعب اللفظي، تكلله هالة من العفة والطهر والرزانة. ولا بد من الاشارة الى ان شرف الدين عبد العزيز بن محمد الانصاري الوحيد الذي ضمن اغلب ابيات قصيدته اشطرا من
قصيدة كعب بن زهير، نأخذ منها الابيات الاولى ( ديوان الصاحب شرف الدين الانصاري ص 389. ) :
أوهمت نصحا لوان النصح مقبول ... (لا ألهينك اني عنك مشغول
بان التجلد عنّي والتصبر مذ ... (بانت سعاد فقلبي اليوم متبول)
تياهة آثرت صدا لمغرمها ... (متيم إثرها لم يفد مكبول)
ثرت دموعي اذ افترت بذي أشر ... (كأنه منهل بالراح معلول)
جديدة الحسن يبدو في مقسمها ... (عتق متين وفي الخدّين تسهيل)
حلمت عند تمنيها بزورتها ... (إن الاماني والاحلال تضليل)
خوّانة حقّقت فينا توعّدها ... (وما مواعيدها الّا الاباطيل)
دعني فإن فاتني منها النوال فلي ... (من الرسول باذن الله تنويل)
لقد اعتز المسلمون بقصيدة كعب بن زهير، وتوارثوها، وشرحوها،
وعارضوها، وشطروها، وخمسوها، حتى قال المقرّي: «ولم تزل الشعراء من ذلك الوقت الى الان ينسجون على منوالها، ويقتدون بأقوالها، تبركا بمن أنشدت بين يديه، ونسب مدحها اليه» ( نفح الطيب 2/ 189.) . وقد ذكر الباحث المحقق هلال ناجي ثلاثة وخمسين شرحا بين مطبوع ومخطوط لهذه القصيدة في مقدمة تحقيقه لكتاب (شرح بانت سعاد) لعبد اللطيف بن يوسف البغدادي المتوفى سنة 629 للهجرة ( شرح بانت سعاد ص 9- 22.) . ومن القصائد التي نظمت معارضة لقصيدة كعب بن زهير قصيدة شهاب الدين احمد بن عبد الملك العزازي وقد جاء الغزل في مقدمتها،( فوات الوفيات 1/ 95، المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي 1/ 341. ) من ذلك قوله :
دمي بأطلال ذات الخال مطلول ... وجيش صبري مهزوم ومفلول
ومن يلاق العيون الفاتكات بلا ... صبر يدافع عنه فهو مخذول
لم يدر من سلب العشاق انفسهم ... بأنه عن دم العشاق مسؤول
وبي أغنّ غضيض الطرف معتدل ال ... قوام لدن مهزّ العطف مجدول
كأنّه في تثنيه وخطرته ... غصن من البان مطلول ومشمول
سلافة منه تسبيني وسالفة ... وعاسل منه يصبيني ومعسول
وكلّما مرضت أجفان مقلته ... يصح الا غرامي فهو منحول
يا برق كيف الثنايا الغرّ من إضم ... يا برق أم كيف لي منهنّ تقبيل
ويا نسيم الصّبا كرّر على أذني ... حديثهنّ فما التكرار مملول
التجربة الشعورية- كما يبدو- خافتة في هذه الابيات، والانتقال من المؤنث الى المذكر لا نعهده عند شاعر اخر، وغزله لا يتجاوز وصف القد والخد والريق والسالفة والاجفان.. إن التجاوز في التغزل والتشبيب والالتجاء الى المذكر في مطالع القصائد، والافراط فيه، قد جعل ابن حجة الحموي أن يقول: «إنّ الغزل الذي يصدر به المديح النبويّ يتعيّن على الناظم ان يحتشم فيه ويتأدب، ويتضاءل ويتشبب، مطريا بذكر سلع وسفح العقيق والعذيب والغوير ولعلع واكناف حاجر، ويطرح ذكر محاسن المرد، والتغزل في ثقل الارداف، ورقة الخصر، وبياض الساق، وحمرة الخد، وخضرة العذار، وما اشبه ذلك» ( خزانة الادب لابن حجة الحموي ص 11. ) ، وهذا القول اطلقه ابن حجة الحموي في معرض حديثة عن احدى نبويات ابن نباتة المصري وعفتها وحشمتها وبراعة استهلالها،( ديوان ابن نباتة المصري ص 180. ) ، وينظر ابن نباتة المصري أمير شعراء المشرق ص 275. وهي :
صحا القلب لولا نسمة تتخطر ... ولمعة برق بالغضا تتسعر
والقارىء للقصيدة يجد ابن نباتة المصري يساير الشعراء الاخرين الذين سبقوه في بناء قصائدهم المدحية، ولا يختلف عنهم في تغزله ووصف غانيته الحسناء وفاتنته الغيداء، ذلك الوصف الذي يخرج عن مبادىء ابن حجة الحموي في صفات الغزل الموجودة في مطالع المدائح النبوية التي ذكرها آنفا كما في قوله من القصيدة نفسها:
يروقك جمع الحسن في لحظاتها ... على أنّه بالجفن جمع مكسّر
من الغيد تحتفّ الظّبا بحجابها ... ولكنها كالبدر في الماء يظهر
يشف وراء المشرفية خدّها ... كما شفّ من دون الزجاجة مسكر
ولا عيب فيها غير سحر جفونها ... وأحبب بها سحّارة حين تسحر
اذا جردت من برودها فهي عبلة ... وان جردت الحاظها فهي عنتر
واين نضع قول ابن حجة الحموي تجاه نبوية ابن نباتة المصري التي عارض بها قصيدة كعب بن زهير، التي يقول في مطلعها :
ما الطرف بعدكم بالنوم مكحول ... هذا وكم بيننا من ربعكم ميل
ومنها:
أبكي اشتياقا اليها وهي قاتلتي ... يا من رأى قاتلا يبكيه مقتول
مسكية الخال، اما ورد وجنتها ... فبالجنى من عيون الناس مبلول
فإن يفح من نواحي خدّها عبق ... فالمسك فيه بماء الورد مجبول
تفتر عن شنب حلو لذائقه ... في ذكره لمجاج النحل تعسيل
مصحّح النقل عن شهد وعن برد ... لانّه منهل بالراح معلول
ويبدو ان اعجاب ابن حجة الحموي بشعر ابن نباتة المصري الذي خصص لمدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم ست قصائد أنساه ما فيه من غزل حسي تناول فيه مفاتن المرأة ووصفها وتجسيد صور الحسن فيها والقاء الظلال الجميلة عليها:
وقد اسرف ابو حيان الاندلسي في كشف مواطن الجمال وسحر الاعضاء عند الحبيبة، واول قصيدته :
لا تعذلاه فما ذو الحبّ معذول ... العقل مختبل والقلب متبول
هزت له أسمرا من خوط قامتها ... فما انثنى الصبّ الا وهو مقتول
ومنها:
فالنحر مرمرة، والنشر عنبرة ... والثغر جوهرة، والريق معسول
والطّرف ذو غنج، والعرف ذو أرج ... والخصر مختطف، والمتن مجدول
هيفاء ينبس في الخصر الوشاح لها ... درماء تخرس في الساق الخلاخيل
من اللواتي غذاهنّ النعيم فما ... يشفّين أباؤها الصيد البهاليل
وتتوالى الابيات في هذا الغزل حتى يخلص الى مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو- كما مر- يتناول اعضاء المرأة ويعرضها للسامع بأسلوب مثير وكأنه يعرض جارية للبيع.. وهذه حالة لا يتعاطف القلب معها ولا تستأنس النفس بذكرها.
اما الغزل بالمذكر او المرد- كما قال ابن حجة الحموي- فهو قليل اذا ما قيس بحجم الغزل بالمؤنث، وهو لا يهبط- كما بدا لنا- الى الدرك الاسفل من الادب المرذول كما هو الحال عند الشعراء المشهورين بالمجون والتهتك وقلة الحياء، واليك هذا المثال لشمس الدين محمد بن عفيف الدين (سليمان) التلمساني المعروف بالشاب الظريف (ت 688 هـ) في مطلع قصيدة يمدح بها الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ويذكر فيها قسوة المحبوب وعدم مبالاته بما يعاني المحب من أرق وقلق :
هذا الذي أحبّه ... قاس عليّ قلبه
نام ولم يعلم بما ... بات يقاسي صبّه
واعجبا كم عاج بي ... دلاله وعجبه
آها لمعننىّ واله ... لم يدر كيف ذنبه
وثمة طريقة اخرى في ابتداء القصائد المدحية هي التشبيب بالديار الحجازية وذكر معالمها، او الحنين اليها والتشوق الى ساكنيها، والبكاء على قاطينها، ووصف الابل الضامرة، وحديث السّرى، والمناهل والنباتات، والمواضع التي تقع على امتداد الطريق، والريح والبرق والرعد، وكل الظواهر الطبيعية التي تراها العين ... فهي تؤدي الى الحبيب والشفيع، الى من لا يخيب شفاعة مستجير ... مثل قول ابي زكريا جمال الدين يحيى بن يوسف الصّرصري :
ذكر العقيق فهاجه تذكاره ... صبّ عن الاحباب شطّ مزاره
وهفت الى سلع نوازع قلبه ... فتضرمت بين الجوانح ناره
كلف برامة ما تألق بارق ... من نحوها الا بدا اضماره
يشتاق واديها ولولا حبّها ... لم يصبه واد زهت أزهاره
شغفا بمن ملك الفؤاد بأسره ... وبودّه ألّا يفكّ إساره
لولا هواه لما ثنى اعطافه ... بان الحجاز ورنده وعراره
يا من ثوى بين الجوانح والحشا ... مني وان بعدت عليّ دياره
عطفا على قلب بحبك هائم ... ان لم تصله تصدعت أعشاره
وارحم كئيبا فيك يقضي نحبه ... أسفا عليك وما انقضت او طاره
لا يستفيق من الغرام وكلّما ... حجبوك عنه تهتكت استاره
ما اعتاض عن سمر الحمى ظلّا ولا ... طابت بغير حديثكم أسماره
هل عائد زمن تضوّع نشره ... أرجا ورقت بالرضا أشجاره
في مريع بقباب سلع موفق ... بالأنس تهتف بالمنى أطياره
لقد وجدنا مثل هذه المطالع عند كثير من الشعراء الذين خصصوا قصائد في مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونوهوا بسيرته العطرة، امثال: فتيان الشاغوري ، ومحمد بن حمزة بن معد ( الطالع السعيد ص 518) وابن جبير الاندلسي ( ديوان الرحالة ابن جبير الاندلسي ص 104. ) ، وداود بن عيسى الأيوبي ( الفوائد الجلية في الفرائد الناصرية ص 177. )، واحمد بن عبد القوي الربعي ( الطالع السعيد ص 91. ) ، وكمال الدين الزملكاني ، وابن دقيق العيد ، ومحمد بن احمد بن عبد الرحمن ، ومحمد بن عيسى النصيبي ، وضياء الدين علي بن محمد الغرناطي السكندري ، والامام البوصيري ... وعدد كبير من شعراء المغرب والاندلس الذين نأت اوطانهم عن المشرق . ويعد شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد البوصيري فارس هذا الميدان، ولا سيما في قصيدته المعروفة ب (البردة) ، او (الكواكب الدرية في مدح خير البرية) ، التي مطلعها:
أمن تذكّر جيران بذي سلم ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة ... واومض البرق في الظلماء من إضم
وهي من أشهر قصائده ذيوعا وانتشارا، لما امتازت به من قوة الاسلوب، وحسن الصياغة، وجودة المعاني، وجمال التشبيهات، وروعة الصور، يضاف الى ذلك ما نسج حولها بعض المعجبين بها، ولا سيما المتصوفة من قصص ( ينظر الشعر العربي في العراق من سقوط السلاجقة حتى سقوط بغداد ص 272.) وتقع قصيدة البردة للبوصيري في اثنين وثمانين ومئة بيت، وقد استأنس- كما يبدو- عند نظمها بميمية ابن الفارض التي مطلعها :
هل نار ليلى بدت ليلا بذي سلم ... أم بارق لاح في الزوراء فالعلم
وبميميتي الامام يحيى بن يوسف الصّرصري الاولى مطلعها :
أمط رحال السّرى يا حادي النّعم ... عنها فهذا مقيل الرّوح والنّعم
والثانية مطلعها :
هذي تهامة فاحبس غير متّهم ... واعلم بأنّ الهوى عن يمنة العلم
وقد ظلت قصيدة البوصيري تستهوي قلوب المسلمين وتستلهم الشعراء لمعارضتها لجماليتها اللغوية والايقاعية وما تحمله من صور وأخيلة تداعب نفوس الكثيرين وتشدهم الى حب نبيهم صلّى الله عليه وسلّم نأخذ منها الابيات الاتية :
لولا الهوى لم ترق دمعا على طلل ... ولا أرقت لذكر البان والعلم
فكيف تنكر حبا بعدما شهدت ... به عليك عدول الدمع والسقم
وأثبت الوجد خطّي عبرة وضنى ... مثل البهار على خديك والعنم
نعم سرى طيف من هوى فأرقني ... والحب يعترض اللذات بالألم
عدتك حالي لا سري بمستتر ... عن الوشاة ولا دائي بمنحسم
محضتني النصح لكن لست أسمعه ... إن المحبّ عن العذال في صمم
ومنها:
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته ... لكلّ هول من الاهوال مقتحم
دعا الى الله فالمستمسكون به ... مستمسكون بحبل غير منفصم
فاق النبيين في خلق وفي خلق ... ولم يدانوه في علم ولا كرم
ولابد من التنويه بان شعر الحنين الى ارض الحجاز والاماكن المقدسة وذكر معالمها ومباهجها وما دب فيها من انسان وحيوان، وما نبت فيها من شجر وزرع لم يكن من ابتداع هؤلاء الشعراء الذين ذكرناهم، بل سبقهم شعراء كثيرون منذ زمن الشريف الرضي، واشتهر بذلك حسام الدين عيسى بن سنجر الإربلي المعروف بالحاجري (ت 632 هـ) نسبة الى حاجر، احدى المواضع الحجازية التي تغنى بها واكثر من ذكرها في شعره ( ينظر بحثنا (حسام الدين الحاجري الاربلي) في مجلة اداب المستنصرية، العدد 10 لسنة 1984.) . لقد استطاب الشعراء هذا اللون في مطالع قصائدهم المدحية لحبهم وشوقهم الى الرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي ضمته تلك الديار كما عبر عن ذلك ابن دقيق العيد في قوله ( ابن دقيق العيد، حياته وديوانه ص 154.) :
تهيم نفسي طربا عندما ... استملح البرق الحجازيّا
ويستخف الوجد عقلي وقد ... أصبح لي حسن الحجى زيّا
يا هل أقضّي حاجتي من منى ... وأنحر البزل المهاريّا
فأرتوي من زمزم فهي لي ... ألذّ من ريق المهاريّا
ويتخلل بعض مطالع الحنين والشوق الى الديار الحجازية وصف الابل التي تقلّهم وما تعاني من تعب ومشقة في قطع الفيافي والمسير في مضارب الصحارى وهي صابرة على الطعام والماء، من ذلك الابيات الاتية من قصيدة لعمر بن النصير الحريري (ت 711 هـ) الذي اجاد في تصوير حالتها وهي تدبّ في سيرها وتسعى حثيثا وهي تحمل اثقالها للوصول الى مثوى حبيب المسلمين محمد صلّى الله عليه وسلّم ( الطالع السعيد ص 446. ) :
ما لمطايانا تميل مالها ... أظنّ رمل رامة بدا لها
لا تحسبنّ ميلها عن ملل ... وإنّما سكر الهوى أمالها
وربّما كلّت ولكن شوقها ... يمنعها ان تشتكي كلالها
وكلّ صعب في سراها هيّن ... لا سيما ان بلغت آمالها
تبدي نشاطا عندما يطلقها ... حابسها بحلّه عقالها
تجد وجدا في الحزون كلما ... تذكرت من يثرب اطلالها
وإن حدا الحادي بذكر طيبة ... هيج ذكر طيبة بلبالها
فشوقها يسوقها حتى ترى ... آمالها هناك او آجالها
ترى أراني زائرا منازلا ... أقصد من كلّ الورى نزّالها
فيها أجلّ مرسل لأمّة ... كانت ترى رشادها ضلالها
المطايا لا يقل شوقها الى يثرب ومن فيها عن شوق راكبيها وحداتها، فهي لا تكلّ ولا تملّ ولا تشتكي، تستسهل الصعب، وتستهين بالحزون والشعاب، من اجل ان تحط رحالها عند أجلّ مرسل واكرم نبي واهدى مبعوث. وهناك مذهب آخر سلكه فريق من الشعراء في مطالع المدائح النبوية، هو التوجه الى المسلمين باللوم والتقريع، او النصح والارشاد وبيان مضار الغواية والضلال والاعمال المشينة والافعال المقرفة والعواقب الوخيمة التي تنتظر الخارجين عن جادة الصواب والحساب العسير الذي سيلاقونه ان هم تمادوا في غيهم وافعالهم الضالة، من ذلك ما جاء في لامية شرف الدين البوصيري التي مطلعها :
الى متى انت باللذات مشغول ... وأنت عن كلّ ما قدمت مسؤول
في كلّ يوم ترجي ان تتوب غدا ... وعقد عزمك بالتسويف محلول
ومنها:
فجرد العزم إنّ الموت صارمه ... مجرد بيد الآمال مسلول
واقطع حبال الاماني التي اتصلت ... فإنما حبلها بالزور موصول
انفقت عمرك في مال تحصله ... وما على غير إثم منك تحصيل
ورحت تعمر دارا لا بقاء لها ... وأنت عنها وان عمّرت منفول
جاء النذير فشمّر للمسير بلا ... مهل فليس مع الانذار تمهيل
وصن مشيبك عن فعل تشان به ... فكلّ ذي صبوة بالشيب معذول
إن الكثير من قصائد المديح النبوي يبدأ بواحد من التمهيدات السابقة، والقليل يخلو منها، ولا سيما القصائد القصيرة والمقطوعات، كما هو الحال عند الصاحب شرف الدين عبد العزيز بن محمد الانصاري (ت 662 هـ) حيث نجد في ديوانه مجموعة نبويات تبدأ بالمديح مباشرة، يظهر عليها التصنع والعناية بالمحسنات اللفظية والمعنوية، حتى انه بنى قوافي احداها على لزوم ما لا يلزم، منها :
جلّ ربعا بطيبة حلّ فيه ... خير حال بسؤدد وعفاف
حجرات كم للملوك وللأم ... لاك فيهنّ من حفا واحتفاف
واليه خفت بنا العيس في عر ... ض الفيافي قوادما وخوافي
يمّمت ما جدا سرت مدح الا ... يات منه، ثم اقتضتها القوافي
وبعد ان عرضنا المقدمات والوانها في اشهر القصائد التي تناولت مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ننتقل الى متون هذه القصائد لنرى مضامينها وكيف عالجها الشعراء. فأول ما يطالعنا منها الغزل بذات الرسول وذكر حسنه وبهائه وجماله وصفاته وسحر عينيه ورموشه وثغره وطيب أريجه وحلو حديثه وبشر وجهه وطلاقته، من ذلك قول شرف الدين البوصيري :
نبيّ كامل الاوصاف تمت ... محاسنه فقيل له الحبيب
وصفت شمائلا منه حسانا ... فما أدري امدح أم نسيب
وتناول جمال الدين يحيى بن يوسف الصّرصري في كثير من نبوياته، وبأسلوب شيّق جذّاب، نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم ونوره الساطع وحسن شعره، وبريق ثغره، وطيب نشره، مثل قوله :
اوجهك أم ضوء الصباح تبلّجا ... أم البدر في برج الجمال جلى الدّجى
أم الشمس يوم الصّحو في برج سعدها ... وفرعك أم ليل المحبّ اذا سجا
وبرق سرى أم نور ثغرك باسما ... ونشرك أم مسك ذكيّ تأرجا
أتتك جنود الحسن طوعا بأسرها ... فصرت مليكا في الجمال متوّجا
فأضحت ابيّات القلوب أسيرة ... لديك فلم يملكن عنك معرّجا
فطوبى لعبد انت سيده لقد ... سما بين ارباب البصائر والحجى
هام هذا الشاعر حبا في النبي صلّى الله عليه وسلّم، وشغف به شغفا لا نجده عند كبار الشعراء المحبين، قال عنه ابن تغري بردي ( النجوم الزاهرة 7/ 66.) : «كان من العلماء الفضلاء الزهاد العباد، وكان له اليد الطولي في النظم، وشعره في غاية الجودة، ومدح النبي صلّى الله عليه وسلّم بقصائد لا تدخل تحت الحصر كثرة» . كان هذا الشاعر الهائم بحب النبي صلّى الله عليه وسلّم، يأتي بأجمل النعوت، بل بكل جميل في الوجود، يقول في تضاعيف احدى قصائده :
هو الأبلج البادي الوضاءة وجهه ... كبدر الدّجى كان أبهى وأجملا
كأنّ مجال النور فوق جبينه ... سنا بارق أو واضح الصبح اقبلا
قسيم وسيم أوطف الهدب عينه ... بها دعج يسمو فيحسب أكحلا
وأشرب خداه البياض بحمرة ... كورد ندّ هبت له الريح شمألا
أغرّ الثنايا واضح النحر جيده ... من الفضة البيضاء أحسن مجتلى
أجلّ الورى فرعا وانور مفرقا ... وأجمل عرنينا وأحلى مقبّلا
واقومهم قدّا والين معطفا ... وأعذب الفاظا واصدق مقولا