"التسليم لله .. الدكتور علي عزت بيجوفيتش"

للطبيعة حتمية تحكمها, وللإنسان قدره , والتسليم بهذا القدر هو الفكرة النهائية للإسلام.

فهل القدر موجود ؟ وأي شكل يتخذ؟ دعنا ننظر في حياتنا لنرى ماذا تبقى من خططنا العزيزة على أنفسنا وما تبقى من احلام شبابنا؟ ألم نأت إلى هذا العالم بلا حول لنا ولا قوة في ذلك, ثم واجهنا تركيبتنا الشخصية, ومنحنا قدرا من الذكاء قل أو كثر, وملامح جذابة أو منفرة, وتركيبة بدنية رياضية أو قزمية, ونشأنا في قصر ملك أو كوخ شحاذ, في أوقات عصيبة أو زمن سلام , تحت سلطان طاغية أو أمير نبيل, وفي ظروف جغرافية وتاريخية لم يتم استشارتنا بشأنها؟ .. كم هي محدودة تلك التي نسميها إرادتنا ! .. وكم هو هائل وغير محدود قدرنا !

لقد وضع الإنسان في هذا العالم وقدر له أن يعتمد في وجوده على كثير من الحقائق التي لا يملك عليها سلطانا, وتتأثر حياته بعوامل قريبة منه وعوامل أخرى نائية عنه أكثر مما يتخيل !!

في أثناء إقتحام الحلفاء لأوروبا سنة 1944 خلال الحرب العالمية الثانية حدث للحظات قليلة اضطراب شمل جميع الإتصالات اللاسلكية, وكان من الممكن أن يتسبب هذا في كارثة تقضي على العمليات العسكرية التي كانت قد بدأت تشق طريقها ولم يعرف أحد سبب هذا الإضطراب إلا بعد عدة سنوات , حيث عزيَ هذا الإضطراب إلى انفجار حدث في مجموعة نجمية يطلق عليها اسم أندروميدا , علما بأن هذه المجموعة تبعد عن كوكبنا عدة ملايين من السنوات الضوئية !!
ويوجد على الأرض أنواع من الزلازل الفاجعة يرجع إلى تغييراا معينة تحدث على سطح الشمس!! وكلما نمت معرفتنا عن العالم تزايد إدراكننا بأننا لا يمكن أن نكون أسياد مصائرنا, حتى مع افتراض أعظم تقدم ممكن للعلم, فإن مقدار ما سيكون تحت سيطرتنا من عوامل لا يساوي شيئا إذا ما قورن بالكم الهائل من العوامل الخارجة عن هذه السيطرة, إن حجم الإنسان لا يتناسب مع حجم هذا الكون الفسيح, وعمر الإنسانية كلها ليس وحدة قياس لما يجري في هذا الكون من أحداث, وهذا سبب ما يعتري الإنسان من شعور دائم بالخطر, وما ينعكس على نفسيته من حالات التشاؤم والتمرد واليأس واللامبالاة .. أو التسليم لله.

إن الإسلام يجتهد في تنظيم هذا العالم عن طريق التنشئة والتعليم والقوانين التي شرعها الله, وهذا هو مجاله المحدود أما مجاله الرحيب فهو .. التسليم لله.

إن العدالة الفردية لا يمكن أن تكون كافية في إطار هذا الوجود المحدود, إننا قد نتبع جميع القواعد والتعاليم الإسلامية والتي من شأنها أن تمنحنا السعادة في الدارين - الدنيا والآخرة - وقد نضيف إلى ذلك إتخاذ جميع الإجراءات الطبية والإجتماعية والأخلاقية فإننا سنظل نصاب في أجسامنا وفي نفوسنا بكثير من المعاناة بسبب التشابك الرهيب للأقدار والرغبات والحوادث, فما الذي يمكن أن يعزي أما فقدت ابنها الوحيد ؟؟ وأي سلوى ممكنة لرجل اصيب في حادثة فأصبح قعيدا معوقا ؟؟!

لابد أن نكون على وعي بظروفنا الإنسانية فنحن مغموسون في أوضاع معينة وقد نستطيع أن نعمل على تغيير هذا الوضع ولكن تبقى هناك أوضاع لا تقبل بطبيعتها التغيير, قد تتخذ هذه الأوضاع أشكالا مختلفة وقد تنحجب قوتها الغالبة, ولكن تبقى أمامنا هذه الحقائق : "إنني لا مفر أن أموت!" "لا بد من أن أعاني وأن أناضل!" .. "إنني ضحية الحظ .. إنني أتعثر - دون رغبة مني - في مشاعر الذنب" .. هذه الظروف الأساسية في حياة الإنسان يطلق عليها "الأوضاع الحدية" (*1), من المؤكد أن واجب الإنسان هو أن يبذل جهده لتحسين كل شيء في هذ العالم بمقدوره أن يحسنه, ومع ذلك فسيظل أطفال يموتون بطريقة مأساوية حتى في أكثر المجتمعات كمالا, والإنسان - على أحسن الفروض - قد يستطيع أن يقلل من كم المعاناة في هذا العالم, ومع ذلك سيبقى الظلم والألم مستمرين, ومهما كانا محدودين فلن يتوقفا عن أن يكونا سببا للتجديف (للميل) والإنحراف .

إن "التسليم لله" أو "التمرد" إجابتان مختلفتان للسؤال نفسه.

في التسليم لله يوجد شيء من كل حكمة إنسانية فيما عدا واحدة: تلك هي التفاؤل السطحي, فإن التسليم هو قصة المصير الإنساني ولذا فإن التشاؤم نافذ إليه, لأن كل مصير تراجيدي مأساوي إذا نحن قمنا بتحليله إلى أعمق أعماقه !

الإعتراف بالقدر ..استجابة مثيرة للقضية الإنسانية الكبيرة التي تنطوى في جوهرها على المعاناة التي لا مرد لها, إنه إعتراف بالحياة على ما هي عليه, وقرار واع بالتحمل والصمود والتجمل بالصبر, وفي هذه النقطة يختلف الإسلام اختلافا حادا عن المثالية المصطنعة وعن الفلسفة الأوروبية التفاؤلية وحكايتها الساذجة عن "الأفضل من كل ما هو ممكن في العالمين", ذلك لأن التسليم لله هو ضوء يانع يخترق التشاؤم ويتجاوزه.

كنتيجة لاعتراف الإنسان بعجزه وشعوره بالخطر وعدم الأمن يجد التسليم لله في حد ذاته قوة جديدة وطمأنينة جديدة. إن الإيمان بالله والإيمان بعنايته يمنحنا الشعور بالأمن الذي لا يمكن تعويضه بأي شيء آخر , ولا يعني التسليم لله سلبية في موقف الغنسان كما يظن الكثير من الناس خاطئين, في الحقيقة "كل السلالات البطولية كانوا من المؤمنين بالقدر", إن طاعة الله تستبعد طاعة البشروالخضوع لهم, إنها صلة جديدة بين الإنسان وبين الله, ومن ثم .. بين الإنسان والإنسان.

إنها أيضا حرية يكتسبها الإنسان بمواصلته الإيمان بقدره ومواصلة الكدح والجهاد سمتان إنسانيتان معقولتان وفيهما يتحقق الاعتدال والصفاء إذا نحن أمنا بأن النتيجة النهائية ليست بأيدينا, إنما علينا أن نسعى ونعمل, أما الباقي ..فبين يدي الله.

فلكي ندرك حقيقة وضعنا في هذا العالم يعني أن "نستسلم لله" وأن نتنفس السلام مع أنفسنا, وألا يحملنا الوهم على أن نبدد جهودنا في الإحاطة بكل شيء والتغلب عليه, علينا أن نتقبل المكان والزمان اللذين أحاطا بميلادنا, فالزمان والمكان قدر الله وإرادته, إن التسليم لله هو الطريقة الإنسانية الوحيدة للخروج بدون تمرد ولا قنوط ولا عدمية ولا انتحار. إنه شعور بطولي - لا "شعور" بطل - بل شعور إنسان عادي قام بواجبه وتقبل قدره.

إن الإسلام لم يأخذ اسمه من قوانينه ولا نظامه ولا محرماته ولا من جهاد النفس والبدن التي يطالب الإنسان بها, وإنما من شيء يشمل هذا كله ويسمو عليه: من لحظة فارقة تنقدح فيها شرارة وعي باطني .. من قوة النفس في مواجهة محن الزمن.. من التهيؤ لاحتمال كل ما يأتي به الوجود ... من حقيقة التسليم لله .. إنه استسلام لله ..والإسم (( إسلام )) !