أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 10 من 10

الموضوع: اللحظة الحاسمة

  1. #1
    الصورة الرمزية قوادري علي شاعر
    تاريخ التسجيل : Aug 2008
    الدولة : الجزائر
    العمر : 52
    المشاركات : 1,672
    المواضيع : 142
    الردود : 1672
    المعدل اليومي : 0.29

    افتراضي اللحظة الحاسمة

    اللحظة الحاسمة

    قصة قصيرة


    ليس الآن، عليَّ أن أتريَّث، ربما حين نصِل الشارع الضيق، هناك هو المكان الأنسب، أحاول جادًّا التمسك بأعصابي، لعلَّه يلاحظ حبَّات العرق الرقيقةَ المتصببة، أو تلك الحمَّى الخفيفةَ التي تسيطر عليَّ الآن، أو الرعشةَ التي تزداد وضوحًا على مفاصل وجهي.

    تكبدتُ الكثير وأنا أحضِّر لهاته اللَّحظة، مقدِّمات كلامية وترحيب، وبسمة رسمتُها، وضحكة غرستُها من أجل اللحظة الحاسمة، يرمقني في التفاتة غريبة.
    • هل يشك بي؟ هل استمع لنيَّاتي المخبأة؟! هل يتكلَّم صمتي؟!
    سأشغله بالكلام عن مواضيع يحبها.
    • آهٍ! نسيتُ ماذا يحب.
    الرياضة؛ كرِهها منذ أحداث مصر والجزائر، وما صاحَبها من مناوشات وعداء كبير من أجل جلد منفوخ.

    السياسة؛ يبغضها منذ اختلطَتِ المصطلحات، وسالت أودية الدَّم في البلدان العربية، واتخذت تسمية طائفية مَقيتة.
    كَرِه الرياضة والسياسة؛ لأنَّ الدَّهماء تتكلَّم فيهما.
    أكلِّمه عن الموسيقا؟ أكلِّمه عن الأدب والثقافة؟ أكلمه عن عالم التكنولوجيا والأقمار والفضاء والتاريخ؟ لكن لا بدَّ أن أقتنص اللَّحظة الحاسمة وألَّا أسهو عنها.

    يستأذنني من أجل أن يشحن هاتفَه النقَّال ليكلِّم زميلًا، يتناقشان حول قانون التقاعد الجديد، يتبرم مخبرًا صديقَه أنْ لا طاقة له بمواصلة العمل كلَّ تلك السنوات.

    أعود لنفسي، أرتِّب حوارًا جديدًا متمسكًا بكلِّ التفاصيل، محاولًا أن أراقب كلَّ خلجاتي، فلربما فضحتني، ما زال أمامنا الطريق طويلًا، نجانب المسجد العتيق، أستغلُّ الفرصة فأحدثه عمَّا سمعتُه من حكايات حول هذا المبنى الذي مرَّ عليه أئمَّة ورجال وشيوخ، وبقي شامخًا يروي التاريخ، تعانق ذاكرتي الأماكنَ والحنين لمدينتي الصَّغيرة قبل أن تنتفخ وتتعرى من كل جميل كساها.

    يسألني فجأة:
    • هل قرأتَ عن التصوُّف؟

    لمحت في عينيه ما يشبه الْتِماعة تهتزُّ لكلمة التصوف، ما يشبه ولوجًا لحالة مختلفة، أردف مواصلًا:
    • كنَّا صغارًا، تشدنا مجالس الورد والتجلِّي، وتجذبنا عوالم من زمرُّد الذِّكر وموسيقا روحية، وتوحد مع الذِّكْرِ والقراءة الجماعية للقرآن بالطريقة المغاربية.

    توقَّف متأففًا من روائح السجائر المتدافعة نحو أنفه من المقهى، وضجيج زبائنها وهم يتحدَّثون بلغات مختلفة؛ صراخ، همس، وكلام بذيء يمسُّ الذات الإلهية.. حاولتُ اللحاق به، فقد تسارعَتْ خطواته بشكلٍ غريب، في العادة يمشي بخطوات ثقيلة.

    لا أدري متى تكون اللَّحظة الحاسمة؛ فالشارع الرئيسي في هذه النقطة يضيق ويزداد حركة؛ شاحنات، وسيارات، والأمرُّ إصرار المشاة على استِغلال الطريق المعبد.

    قهقه مشيرًا إليهم:
    • أتدري، لو انتُخبتُ رئيس بلدية، أول عمل أبادِر به؟ أنزع كلَّ الأرصفة، فلا أحد يستغلها، وأغيِّر بعضَ الشعارات؛ كالرجل المناسب في المكان المناسب، فلا أحد في مكانه، ودولة لا تزول بزوال الرجال.

    رغم سخرية الموقف ومشاركتي له بالضحك، فالفكرة راقتني وأحسستُ أنِّي أحسده على هذه الالتقاطة؛ فقد كنتُ مميزًا في هذه الالتقاطات، يبدو لي الآن أكثر ذكاء ودهاء وليس بالضحيَّة السهلة، واللَّحظة الحاسمة بدأَتْ تفصلنا عنها هوَّةٌ كبيرة.
    برزخ مِن انتظار وارتقاب.
    جذبتُه بسرعة من كتفه؛ فالسيارة كادت تصدمه، بالكاد نهض يَنفض عنه الغبار وبعض الماء المتسرِّب على الأرض.

    قال لي بحسرة:
    • قديمًا كان مَن علَّمني حرفًا صرتُ له عبدًا، واليوم من علَّمني حرفًا صرتُ له عدوًّا.

    وواصل كأنَّ الأمر عادي جدًّا:
    • هذا الشاب الذي كاد يَصدمني بسيَّارته، أمسكتُه متلبسًا بالغشِّ ذات امتحان، وما زال رغم كل هذه السنين يَحمل لي غلًّا!
    تعاطفتُ معه قبل أن أنتبه وأعود متحينًا اللحظة الحاسمة، صمتنا وكأن كلَّ المواضيع انتهت، ولم نعد نتكلَّم، فترة ثقيلة عبرت، لا أحد ينظر للآخر.

    أفكار كثيرة تتوارد، تكلَّم أخيرًا متبرمًا من ارتفاع أسعار كل شيء، وعن الدخول الاجتماعي والعيد وعن الأضحية، لم يكن ذِهني يسمع شيئًا؛ لأني كما قال لي:
    • أنت من عامَّة الناس غير متزوج، والزواج جمعيَّة سريَّة، الداخل فيها لا يفشي أسرارها، والخارج منها لا يعرف عنها شيئًا؛ كما قال برنارد شو.

    مع بلوغ شارع سكنَّاه، اتخذتُ قراري وجمعتُ قواي وعقدتُ عزمي، متبركًا بانتصارات وشجاعات قبيلتنا الضاربة في عمق التاريخ والقاهرة لكلِّ قبائل الدنيا، فليس مثلها في الكون قبيلة، وحمارنا إن ساندناه في الانتخابات لا بدَّ يفوز.

    نظرتُ في عينيه غير آبه، وصهيل البطولات يؤزُّني أزًّا، وكلُّ أشعار الفخر التي أحفظها تردد صداها في داخلي، لتنتظم خفقات القلب في إيقاع عَسكري موحَّد، لا تشوبه شائبة، وأطلب منه ما جاهدتُ النفسَ كلَّ هذه المسافة بلوغه:
    • أن يعيرني 100 دج...!
    ما أكثر ماقلت
    وكأنك لم تقل شيئا.

  2. #2
    قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : Sep 2015
    الدولة : المغرب
    المشاركات : 249
    المواضيع : 13
    الردود : 249
    المعدل اليومي : 0.08

    افتراضي

    لعل أكبر همه اقتناص الفرصة لطلب 100 دج ليس أكثر. جاءت القفلة رائعة لقصة ممتعة تصور مشاهد من حياتنا التعيسة بدقة.
    شكرا لك أستاذي على هذا النص.

  3. #3
    الصورة الرمزية قوادري علي شاعر
    تاريخ التسجيل : Aug 2008
    الدولة : الجزائر
    العمر : 52
    المشاركات : 1,672
    المواضيع : 142
    الردود : 1672
    المعدل اليومي : 0.29

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أحمد العكيدي مشاهدة المشاركة
    لعل أكبر همه اقتناص الفرصة لطلب 100 دج ليس أكثر. جاءت القفلة رائعة لقصة ممتعة تصور مشاهد من حياتنا التعيسة بدقة.
    شكرا لك أستاذي على هذا النص.
    شكرا جزيلا الراقي أحمد
    سعدت بقراءتك المائزة...
    تقديري

  4. #4
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Jun 2016
    المشاركات : 30
    المواضيع : 6
    الردود : 30
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    نص جميل وممتع يستحق القراءة

    من البداية زرع الكاتب بذرة تشويق وما هي إلا نقطة ارتكازية لسرد بعض ما يكتنف البطل من هواجس
    سردها الكاتب دون أن يحيد أو يغفل تشويقنا للحديث الذي يريد استفتاحه مع زميله
    أثناء ذلك كان يعبر بنا محطات اجتماعية وسياسية بسرعة ويسر
    هذا جعلنا نترقب القادم ونتصور حياة البطل وزميله وبيئتهما

    نص ممتع وراق

    تقديري استاذي علي قوادري

  5. #5
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Oct 2016
    المشاركات : 5
    المواضيع : 0
    الردود : 5
    المعدل اليومي : 0.00
    من مواضيعي

      افتراضي http://www.rabitat-alwaha.net/moltaqa/newreply.php?do=newreply&no

      نحن، اللذَيْن كنّا آنذاك، لم نعد كما كُنّا.
      لم أعُدْ أُحبها، صحيحٌ، لكنْ كمْ أحببتها.
      كان صوتي يبحث عن الريح كي يلامس سمعَها.
      ستكون لآخَر. لآخَر. مثلما كانت من قبْل لقبلاتي.
      صوتها، جسدها المضيء. عيناها اللا نهائيتان.
      لم أعُد أُحبها، صحيح، لكنْ ربّما أحبها.
      كم هو قصيرٌ الحب، وكم هو طويلٌ النسيان.

    • #6
      الصورة الرمزية قوادري علي شاعر
      تاريخ التسجيل : Aug 2008
      الدولة : الجزائر
      العمر : 52
      المشاركات : 1,672
      المواضيع : 142
      الردود : 1672
      المعدل اليومي : 0.29

      افتراضي

      اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بسباس عبدالرزاق مشاهدة المشاركة
      نص جميل وممتع يستحق القراءة

      من البداية زرع الكاتب بذرة تشويق وما هي إلا نقطة ارتكازية لسرد بعض ما يكتنف البطل من هواجس
      سردها الكاتب دون أن يحيد أو يغفل تشويقنا للحديث الذي يريد استفتاحه مع زميله
      أثناء ذلك كان يعبر بنا محطات اجتماعية وسياسية بسرعة ويسر
      هذا جعلنا نترقب القادم ونتصور حياة البطل وزميله وبيئتهما

      نص ممتع وراق

      تقديري استاذي علي قوادري
      شكرا جزيلا الراقي بسباس
      سعدت بقراءتك المميزة.
      تقديري.

    • #7
      مشرفة عامة
      أديبة

      تاريخ التسجيل : Aug 2012
      المشاركات : 21,110
      المواضيع : 317
      الردود : 21110
      المعدل اليومي : 4.95

      افتراضي

      أجهدتنا يارجل ونحن نبحث خلال سردك الشيق عن اللحظة الحاسمة
      ترى مالذي يريد ان يقوله أو يفعله..
      وقد سقت النص بمهارة وحرفية مستخدما مواضيع غنية بأسلوب أدبي راقي
      لنجد في النهاية أن اللحظة الحاسمة كانت لطلب سلفة.
      قصة مشوقة محفزة للقارئ ليصل إلى النهاية في عمل
      متماسك وجاذب جميل التصوير
      سلمت ـ وسلم يراعك. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    • #8
      الصورة الرمزية آمال المصري عضو الإدارة العليا
      أمينة سر الإدارة
      أديبة

      تاريخ التسجيل : Jul 2008
      الدولة : Egypt
      المشاركات : 23,786
      المواضيع : 391
      الردود : 23786
      المعدل اليومي : 4.14

      افتراضي

      كل المحطات أودت به للترتيب من أجل تلك اللحظة الحاسمة التي انتظرناها لتفاجئنا بها في تتمة النص
      لغة أدبية راقية وأدوات قوية ونص استحوذ على الذائقة فشكرا لك شاعرنا الفاضل
      تحية وتقدير
      نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    • #9

    • #10
      الصورة الرمزية قوادري علي شاعر
      تاريخ التسجيل : Aug 2008
      الدولة : الجزائر
      العمر : 52
      المشاركات : 1,672
      المواضيع : 142
      الردود : 1672
      المعدل اليومي : 0.29

      افتراضي

      اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حيدر ديكارت مشاهدة المشاركة
      نحن، اللذَيْن كنّا آنذاك، لم نعد كما كُنّا.
      لم أعُدْ أُحبها، صحيحٌ، لكنْ كمْ أحببتها.
      كان صوتي يبحث عن الريح كي يلامس سمعَها.
      ستكون لآخَر. لآخَر. مثلما كانت من قبْل لقبلاتي.
      صوتها، جسدها المضيء. عيناها اللا نهائيتان.
      لم أعُد أُحبها، صحيح، لكنْ ربّما أحبها.
      كم هو قصيرٌ الحب، وكم هو طويلٌ النسيان.
      شكرا جزيلا الراقي حيدر
      على كلماتك الجميلة..
      تقديري.

    المواضيع المتشابهه

    1. اللحظة الآتية!!
      بواسطة د. سلطان الحريري في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
      مشاركات: 29
      آخر مشاركة: 28-06-2018, 11:58 AM
    2. نشــــوة اللحظة
      بواسطة لمى ناصر في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
      مشاركات: 18
      آخر مشاركة: 02-01-2016, 07:14 PM
    3. صباح الخير (69) ماذا اعددنا للحظة الحاسمة؟
      بواسطة ريمة الخاني في المنتدى الاسْترَاحَةُ
      مشاركات: 0
      آخر مشاركة: 01-02-2007, 09:11 AM
    4. حوار مع اللحظة.....
      بواسطة محمد عصام في المنتدى الاسْترَاحَةُ
      مشاركات: 2
      آخر مشاركة: 16-03-2006, 04:19 PM
    5. ومضة اللحظة
      بواسطة عبدالرحيم فرغلي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
      مشاركات: 16
      آخر مشاركة: 30-07-2003, 11:19 PM