في سنة 2030 بدأت أدخل سن الشيخوخة ، سن تغيرت فيه طبائعي تقلصت مساحة حركتي فغدت من البيت إلى المسجد مثلها مثل أحلامي التي ولدت كبيرة ومع مرور اليوم تقلصت بل ومات جلها..
لم أعد أذكر الكثير من الأحداث وحتى بيتي وسني واسمي، وأصبحت أخلط أحيانا في تسمية أبنائي وأحفادي،
قال الطبيب :
-بعض أعراض الزهايمر بدأت تتسرب لذاكرتك يا حاج..
كاستباق للنسيان كنت أحدث أبناء ذاك الجيل عن فلسطين والمسجد الأقصى وغزة وعن جهاد الكفار ، ومن شدة ماكنت أحدثهم عنه تخيلت أني أسرد أساطيرا من أيام عجائز القرن الماضي..وأني غريب الأطوار ،رجل تحنطت لغته وعاد من غيابات الماضي كعودة فتية الكهف من سباتهم الطويل..
لمحت في وجوههم دهشة وتعبيرا ينم عن الجهل..سألت كبيرهم الذي علمهم الإستهزاء بي:
-هل سمعتم بفلسطين أو بغرة أو بمسجد منهوب لنا اسمه المسجد الأقصى؟!!
أجابني غامزا الآخرين:
-إيه ياشيخ هرمت وأصبت بأضغاث أحاديث وتوزعتك الوساوس والأخيلة تفتت ذاكرتك بين لفيف الأحاجي وهلوسات المجاذيب..تكلمنا عن أشياء لم نسمع بها في أبائنا الأولين..لو كلمتنا على الربيع العربي وجهاد الشيعة للسنة وجهاد السنة للشيعة وجهاد آبائنا في اليمن وليبيا وسوريا ووو ...ولكن شط بك الخيال فرحت ترسم لنا مدنا وتترك أعداء لديننا وتوجهنا لأحبة لنا..
وجدتني كالمهرج أو كجدي الحكواتي عندما كان يحدث مستمعيه عن الأندلس في الأسواق الشعبية.. لا أحد يهتم بحديثي ولا بتاريخ أمة تغير بسرعة وأصبح بقية باقية في رؤوس القليل من الشيوخ مثلي ممن تساقطت أسنانهم وانحنت ظهورهم وخف نظرهم وثقل سمعهم وتباطأت خطواتهم..
مات أكثرهم وبقيت أنا وصديق غادر المدينة ولم نعد نسمع عنه شيئا..كان أنيسي ويصحح لي أحيانا فذاكرته ماشاء الله كذاكرة الفيل..
وسرت تتقاذفني حيرة وتمزقني دقات قلب متعب لايمكنه مصاحبتي إلا بدواء لايفارقني ،أتكأ على عصاتي التي أهش بها على سنيِّ عمري الثقيلة ولي فيها عزاء وصحبة بأصابع لا تتوقف رعشاتها وصحة تفضحها أناتها..ولي في كل شارع صبية يلاحقونني وإما توقفت تحوقلوا وهم يصفقون ويصرخون غير عابئين بعصاتي السابحة في ملكوت نسائم الربيع المسائي .. -فلسطين ..فلسطين..غزة غزة الأقصى الأقصى..مجنون مجنون..
حتى إذا افرنقعوا آمّين بفرح فوضوي حجور أمهاتهم ومستأنسين لبرامجهم الخاصة في أجهزتهم الالكترونية الصغيرة ،جمعت بعضي وأنا أحمل طاقم أسناني في يدي ،متشبثا ببقاي جدار سقط بسب هزة أرضية خفيفة ، قاب خطوات من بيتي الذي أفر منه خشية من زوجة ابني الصغير ؛مسكينة تنهرني ولا تحب أن تراني ..تعاملني بوجهين ؛ إذا ما كان زوجها في البيت فرشت لي الهدب والنمارق وأطعمتني فاكهة ولحما وألبستني النظيف المعطر مسكا وإذا ما غادر زوجها إلى عمله في الصحراء انقلبت وانعكس حقدها على مرايا وجهها ليغدو بسحنة سوداء أقرب إلى الفحم..كلما سألني ابني الصغير عن معاملتها ،طفقت أخصف عليها من ورق الدعاء ..
لا أدري كم وقت قضيت لأصل عتبة الباب ،ولكني سعيد لأني ثقيل المشي ،فلابد لكنتَّي أنها نامت يملأ شخيرها البيت بعد دردشة طويلة مع عائلتها في جهازها المحمول..
ألتفت نحو الصبية الذين تلاشوا كسنين العمر وككل الأحبة وأهمس بصوت شبيه بأنين خافت من محتضر أتحداهم وأتحدى كنتي وأتحدى الزهايمر وأتحدى الشيخوخة وأتحدى أجهزتهم وأقمارهم وكاميراتهم المعلقة في كل مكان:
نععععععععم... فلثطين غذة ..الأقثى......................
*ــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
فلثطين=فلسطين غذة=غزة الأقثى=الأقصى..