كان رجلا فاقد العقل .. تعوَّدَ أن يفترشُ ناصية إحدى الأزقة في غزَّة ويقوم بشتم السلطة من أصغر( يزباشي ) حتى رأس (الختيار) ..كانت ألفاظه بذيئة وقوية تفوق بشدتها وبذاءتها ( أم القنابل ) ..
وكان ما يلفت نظري هو تحلق المواطنين من حوله وبعضهم يضحك وآخر مندهش وآخر قائلا ( صح لسانك) ! .. والشئ الذي كان يزيد من دهشتي هو تحلُّق الكثير من رجالات ( السَّلّطَة ) من حوله وعلى اختلاف رتبهم العسكرية ولا أحد منهم يلومه أو يحاول إسكاته أو اعتقاله لعلمهم مسبقا بأنه مجنون وبأن القلم قد رُفع عنه ..
وقفتُ قبالةَ الرجل وأخذتِ الافكارُ تتصارعُ في رأسي وأسئلة كثيرة تفرض نفسها بقوة ... كنت أتساءل.فمثلا ..إن كان هذا الرجل مجنونا فهل نحنُ عقلاء ؟ وكيف امتلكَ هذا الرجل الجرأة والشجاعة ليسمي الاشياء (بمسمياتها ) ؟
فقد سمعته كما الآخرون من رجالات " السَّلَطَة " وهو يقول بأن اللواء الفلاني هو وكيل مواد البناء من أسمنت وحديد مسلح .. وأن العقيد الفلاني هو تاجر ( فاجرات ) ومتعهد حفلات وجوقات إحياء الافراح و (المناسبات السعيدة) ..وأن العميد الفلاني هو وكيل شركات حليب الأطفال والبابمبرز . وأن اللواء الفلاني شريك لمستشار ( الختيار الفلاني ) في ( كازينو أريحا ) ..وأنَّ العقيد الفلاني كان وراء استشهاد يحي عياش , وعماد عقل. ومعين كحيل. والشيخ صلاح ( رحمهم الله وتقبلهم عندهم ).. وأنَّ العميد الفلاني هو شريك مدير البنك الفلاني في شركة المقاولات الفلانية .. وأنَّ وأنَّ وأنَّ ....
أشياءً كثيرة كان يذكرها (ذلك المجنون) والتي لم يجهلها أيُّ عاقل أومجنون في فلسطين – أو خارج فلسطين - ولكنه كان الشخص الوحيد الذي (خرج عن المألوف ) وبلغ به التمادي في ( قلة الأدب ) حتى أنه باح بمكنون صدره وصدر الكثيرين. فالمألوف هو ( الأدب والتأدب ) في الخطاب ..
تأملتُ ذلكَ الموقف مرات عدَّة , وخرجت بنتيجة مفادها بأن هذا الرجل المجنون قد تجاوز كل حدود ( اللياقة والكياسة والأدب) الحمراء منها والخضراء .. فالمسلم غير لعَّان ولا طعان ولا سبَّاب .. لذلكَ .. كان من المفروض على ذلك" المجنون " ومن باب مراعاة ( الذوق العام ) و ( المشاعر الإنسانية المرهفة ) أن يكون أكثر تأدبا – فقرَّرتُ أن أسدي إليه نصيحة فاقتربتُ منه وقلت له .. يا عم أبا حسن .. المسلم غير طعان ولا لعان .. وعليك أن تراعي مشاعر الناس !
شكرني أبو حسن ووعدني بأن يأخذ بنصيحتي ..
وفي اليوم التالي مررتُ به وشاهدتُ الناس المتحلقين من حوله يقولون ( لا حول ولا قوة إلا بالله فقد فقدَ أبو حسن عقله ) .. فقلت لهم وما الجديد ؟ فهو مجنون ( رسمي ) وكل أهل غزة يعرفون ذلك !!
فقال لي محدثي .. ولكنه اليوم يقرأ القرآن ويقوم بتحريف كلام الله ..
تعوذتُ بالله من الشيطان الرجيم وسألته رحمته ولُطفه بنا .. واقتربت من أبي حسن فإذا به يقرأ بعض السور القرآنية وبالفعل كان يحرف في كلام الله .. فمثلا قال بدل كلمة ( تبَّت يدا ) .. ( كُسرت يدا ) .. وفي سورة رجم الزاني والزانية استبدل كلمتي الزاني والزانية بكلمتي " الوِحِش والوِحشة " وكلمتي ( عتِلٌّ ثم زنيم ) بـ ( جبان و لقيط ) ..
لم أتمالكَ نفسي وأنا أرى هذا الكفر البواح .. نعم هو مجنون وقد رُفع عنه وعن " قفاه القلم " ومع هذا فلن يعفيه " جنونه وفقدان عقله " من عدم المساءلة كي تبلغ به الجرأة على تحريف قول الله . فقلت له : أصمتْ .. فض الله فاكَ .. وشل لسانك ! ..
نظر الرجل لي والدموع تترقرق بين جفونه وقال لي : " لم أسلمَ من لومكَ لا مجنونا ولا عاقلا "
مع تحيات
جمال حمدان