احتسيت كأسا من الشاي وأكلت قطعة خبز، ثم وضعت وجبة خفيفة في حقيبتي لعلها تُصمت أنين معدتي عند الحاجة، فانطلقت أسابق الزمن. على غير العادة، اختفت من أمام بيتي كل الأزبال المتراكمة مند أيام، حتى الزقاق عُبد والرصيف كُنس. موقف الحافلة بدوره لم يسلم من التغيير، زُود بشاشة إلكترونية كتبت عليها أرقام الحافلات والمدد الباقية لكل منها، وبُني بجانبها مكان للانتظار مغطى بسقف يَقي الجالسين من لاسعات الشمس الحارقة وزخات المطر، وُضعت على اليمين ألة أتوماتكية لبيع المشروبات والحلويات.
باق من الزمن دقيقة لم تكد تنقضي حتى توقفت حافلة جديدة، كراسيها مريحة وزجاج نوافذها غاية في الصفاء، نظرت عبرها فبدا لي وجهي واضحا إلى جانب صور بعض الراكبين، الستائر غير ممزقة رُصت ألوانها وأشكالها بتناسق، السقف جُهز بكاميرات مراقبة متطورة ترصد الحركات المريبة. تجولت ببصري في الأرجاء أبحت عن الازدحام الذي الفته والفني حتى أصبح جزءًا من كياني فلم أجد له أثرا، حاولت التقصي عن رائحة القاذورات وانبعاثات المحرك، التي تزكم الأنوف وتخدر العقول على مدار اليوم، فلم أستنشق سوى عطر النساء يداعبه النسيم جيئة وذهابا. أمامي مباشرة رجل منهمك في فك طلاسم الكلمات المتقطعة، وعلى جانبي شاب يحاور هاتفه الذكي بلطف ولا يخشى أن يُنشل منه خلسة أو علانية. في المحطة الموالية، نزلت شابة جميلة من غير أن يزعجها أحد بنظرة مريبة أو بلسان سليط يخدش الحياء، الكل منهمك في شأنه.
مرت بنا الحافلة كعادتها أمام البرلمان، لا أحد يتظاهر، هناك لوحات عديدة تعرض مختلف الفنون ومعرض مزدحم للكتاب وحلقات تناقش فيها السياسة في العلن بكل حرية وأخرى ثقافية تُنَظر لجيل جديد من حقوق الإنسان، ومسرحيات في الهواء الطلق تعرض أرقى الأفكار وأروعها يعاينها جمهور غفير متعطش للفن. لم أشاء أن أزعج نفسي لتفسير هذا التغيير، ربما هو كرم الضيافة التي عرفنا به، قد يكون أحد الأجانب في زيارة لبلدنا وسيختفي كل شيء مع عودته إلى وطنه، ويعود كل شيء كما كان والناس إلى طبيعتهم الأولى.
في الوقت المناسب ومن غير أي تأخير وصلت إلى عملي، أنجزت بعض الأعمال الروتينية وبدأت أفكر في طريقة مبتكرة أقنع بها رئيسي في العمل لكي يسمح لي بالتغيب لقضاء بعض الأغراض الملحة. أخد مني ورقة الاستئذان وقرأ المبرر ثم وقعها من غير غضب ولا انفعال، من غير حتى أن يسألني عن ملفات تخص شركة ابنته.
دخلت إلى إدارة الأمن، فاستقبلوني بابتسامة رقيقة وبشاشة، ثم أجلسوني على كنبة جميلة في قاعة جميلة لا أثر للعنف على جدرانها، وقاموا على خدمتي بخفة ونشاط، لم يتركوني أنتظر ولم يشتموني ولم يهينوا كرامتي على الإطلاق، أخذوا بصماتي بلطف واحترام فانصرفت فرحا مسرورا وقررت أن أحكي الحدث لزوجتي وجيراني ليتشجعوا وأن أدونه في مذكرتي.
في طريق عودتي إلى بيتي، جلست أستريح بعدما جذبني منظر حديقة جميلة، لم أتذكر يوما أنني رأيتها بمثل هذا البهاء. أشجار شذبت أطرافها وورود قلمت أشوكها ونحتت أشكالها كأنها عرائس تزف إلى عرسانها بعد طول اشتياق وانتظار. العشب لم يعد أصفرا كما كان، تم سقيه حتى عادت الحياة إلى أوراقه. تلك الأرض الجرداء في الوسط التي كان يتطاير منها الغبار تم زرعها بنبات مستورد غاية في الجمال. الكراسي أيضا كان لها نصيب، بدلت بأخرى جديدة. العصافير التي هجرت المكان، عادت تزقزق فوق الأغصان، وتعزف أحلى الألحان وأعذبها، وترقص رقصات الحب في كل مكان. الفضاء برمته ينعم بالسكينة والهدوء.
وضع في الوسط تلفاز كبير يعرض الأخبار، سمعت أحد المسؤولين يقول: "أما وقد عجزت عن الوفاء ببعض وعودي فقد استقلت من منصبي وللشعب الكلمة الأولى والأخيرة...". شعرت فجأة بشيء ينسحب بخفة ورشاقة فوق صدري، رفعت رأسي فإذا بشاب يهرول هاربا وبيده محفظتي، ليس فيها سوى بعض الدراهيم هي كل ما تبقى من راتبي، لم أحزن بسبها كثيرا. تتبعته بنظرات حائرة وقلب مكسور حتى اختفى، ثم التفت على صوت شيخ يعاتبني بحدة على غفوتي في هذا المكان العام. زغت ببصري قليلا، على اليمين وعلى اليسار، فإذا الدنيا كما أعهدها، فقلت في نفسي: "الحمد لله لم يكن سوى حلم، بل كابوس". ثم قررت ألا أغفو أبدا كي لا أحلم.
نشرت أول مرة في مجلة أنفاس