اللغة العربية والدولة الإسلامية
[gl]خدمات متبادلة[/gl]
خلق الله الإنسان في أحسن تقويم وحباه القدرة على التعبير عما يجول في خاطره، من أمور، أبرز ما يحرّكها التأمل الحسي. قال تعالى: ]ألم نجعل له عينين + ولساناً وشفتين[ [البلد] فكأنه جعل دور اللسان والشفتين أن تترجم مشاهدات العين. وإذا كان في مقدور الإنسان أن يعبّر بأشكال شتّى، كالانفعال الذي يظهر في النبرة أو يطفح به الوجه، أو كالحركة الجسدية، أو كالرسم، وما إلى ذلك... فإن كل هذه الوسائل تبقى قاصرةً أمام سحر الحروف التي تستوعب كل حاجات الإنسان في إظهار ما يختلج في قرارة ذاته.
======================================
وإذا كان من مهام أي دولة أن تعالج واقع الأمة، وتعبّر عن مفاهيمها وأساليب عيشها تعبيراً عملياً عبر معالجاتها - أي معالجات الدولة - الدستورية، وعبر مؤسساتها وأنواع سلطاتها... فإن بداية كل ذلك التعبير باللسان. إن أول عمل سياسي قام به موسى عليه السلام في وفادته إلى فرعون اعتمد على اللسان ]فقولا له قولاً ليناً[ [طه/44]. ولما استشعر موسى أن لسانه لا يفي، قال: ]واحلل عقدة من لساني + يفقهوا قولي[ [طه]. وقد كان الخلفاء الراشدون يبدأون مراسم تقلُّد السلطة الدستورية في الدولة بخطابٍ... ما يعنيني هو دور اللغة ولا سيما العربية في الدولة والقانون... وهذا موضوع بحثي الوجيز هذا.
وليست غايتي من هذا البحث الدخول في صياغة نظرية أو افتراض مثالي وإنما هو استشراف لليوم الذي تقوم فيه الدولة الإسلامية الجامعة، فتتبنى اللغة العربية لغة حضارة ولغة تشريع ولغة تعبير.
وما سيلي من تصورات، قابل للإسقاط على أرض الواقع وللتنفيذ الدقيق، إذا وجدت الإرادة الواعية والسلطة التنفيذية الملتزمة بما تطرحه من شعارات. فالدولة كما نفهمها هي الكيان التنفيذي لمجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات التي ارتضتها مجموعة من الناس. وهذا التعريف أجدى من الآخر الذي يقتصر على ذكر الشعب والأرض والسلطة. هذه الأركان الثلاثة رغم أهميتها إلا أنها لا تكفي إذا لم يَجْتمع سكّان الدولة على مفاهيم ومقاييس وقناعات. من هنا أهمية القانون الذي ينظّم اقتباس التشريعات من تلك المفاهيم والمقاييس والقناعات، كما يغرس القانون بالتالي تلك المفاهيم والمقاييس والقناعات في أذهان الأمة عَبْر تجسيدها في أحكام.
هذا عن الدولة والقانون. فأين دور اللغة؟
إن اللغة جزء أساس من حضارة الأمة وعامل من عوامل وحدتها. وفي هذا يتكامل دور اللغة والدولة، فالدولة يجدر بها أن تمتّن حضارة الأمة وتشكّل الإطار التطبيقي لشتّى مظاهرها أي مظاهر تلك الحضارة. كما يجدر بالدولة حماية الأمة من كل اعتداء خارجي أياً كان شكل هذا الاعتداء.
أمر آخر يتكامل فيه دورا اللغة والدولة... ذلك أن اللغة طريقة فهم والدولة طريقة لتحويل الفهم إلى تفاهم بين الرعية. ثم بين الرعية والراعي.
أما دور اللغة في القانون فبالغ الأثر. لأن الذين يصوغون الموادّ القانونية يعتمدون لغة دقيقة صارمة تلتزم الدلالة اللغوية الحقيقية ولا تتوسّع اعتباطاً في دلالات الألفاظ كما لا (تنفلش) في المجاز... أضف إلى ذلك أن الكتابات القانونية تجتهد في أن لا تحتمل نصوصها التأويلات قدر الإمكان. ولهذا كان لا بد لصائغ هذه المواد من مخزون لغوي وافر، وكذا قارئ هذه الموادّ بنيّة التطبيق.
وتتعقّد المشكلة أكثر إذا كان على القانوني ترجمة القوانين.
ما ذكرناه آنفاً عام ينطبق على كل لغة، وكل قانون، وكل دولة... إنه إذاً ينطبق على اللغة العربية، والاجتهادات الفقهية الدائرة في فلك القرآن، والدولة الإسلامية.
فاللغة العربية وعاء الوحي، وعاء الوحي الأوحد، لا تجوز ترجمة القرآن مع إطلاق القول بأن الترجمة قرآنٌ ووحيٌ. وذلك لاعتبارين - وقد يكون لأكثر - أما الأول فهو أننا مأمورون بالتعبُّد بلفظه دون حيد. وأما الثاني فهو أن حجّة الإعجاز يدخل في حيثياتها ثبات أصل القرآن دون تغيير لهذا لأصل والترجمة تغيير... فما من ترجمة تتفق والأُخرى إذا أجريت كل واحدة بمنأى عن الأخرى.
والوحي قانون شامل لكمال المُرسِل وهو الله المنـزّه عن النقص والخطأ، ولكمال الرسالة ]مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ[ [الأنعام/38] ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ[ [المائدة/3] ولعموم النصوص عموماً مميّزاً بحيث تشمل تلك النصوص كل المتغيّرات والمستجدّات. ومع ذلك تعطي علاجاً تفصيلياً يدخل في دراسة التفاصيل والجزئيات. وقد ساعد على ذلك ولا ريب أن القرآن نزل ]بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ[ [الشعراء] بلغة قادرة على تكثيف الدلالات.
وعليه فإن وظيفة رجال القانون في المفهوم الإسلامي، تنحصر في فهم الوحي وإسقاط مفرداته على الوقائع المتجدّدة. قال تعالى: ]وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب/36] وقال: ]فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ[ [النساء/65]. وقال: ]أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه[ [الشورى/21]. ولهذا التلازم بين القرآن والتشريع واللغة قال أحمد بن فارس في «الصاحبي» ص32 إن السلف حرصوا على أن «يجتنبوا اللحن فيما يكتبونه أو يقرأونه، اجتنابهم بعض الذنوب». وقال ابن تيمية: «... فتعلّم اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» وقال: «لم يكن سبيل إلى حفظ الدين ومعرفته إلا بضبط اللسان». (اقتضاء الصراط المستقيم، ص96 و163 ط القاهرة).
وكان بودي لو اتّسع المقام لإيراد أمثلة وافية على امتناع الاجتهاد الفقهي في الإسلام لدى تعذّر فهم اللغة في مفرداتها أو وظائف حروفها أو تراكيبها أو مجازها. ولكن لكل مقام مقال!
إذا كان للّغة العربية هذه المِنَّة على القانون الإسلامي أي على الدولة الحاملة للمفهوم الإسلامي... فإن على قوانين الدولة أن تنصف اللغة العربية وأن تحميها من العبث وإن شئت فقل من المجون، مجون المشككين والمضللين. وبيان ذلك في ثلاثة محاور.
أما الأول فتعاطي الدولة بقوانينها مع اللغة العربية في مجال الحماية من هيمنة اللغات الأجنبية. ويكون هذا باعتماد العربية لغة رسمية في المعاملات الإدارية والقضائية والتجارية والمصرفية...الخ. ولو تعدّدت الشعوب واللغات في كيان هذه الدولة. قال الإمام الشافعي: «إن الله تعالى فرض على جميع الأمم تعلّم اللسان العربي بالتبع لمخاطبتهم بالقرآن والتعبّد به» (الرسالة).
ويكون أيضاً باعتماد العربية في الخطاب الدبلوماسي الخارجي كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في رسائله إلى ملوك العرب والعجم. وكما فعل هارون الرشيد في رسالته المشهورة إلى نقفور ملك الروم...الخ. هذا الإجراء يبرز هيبة الدولة وتمسّكها بكل مقدساتها وما يُظهر تفرّدها وشخصيتها وما ينصر لغة الوحي عندها!
ويكون أيضاً باعتماد العربية لغة للعلوم كل العلوم في المعاهد. ودعك من المقولات المغرضة حول قصور لغتنا عن استيعاب متطلبات العصر وتطوّرات التكنولوجيا وسيل الاكتشافات. فالعربية لم تضق بمصطلحات اليونان أو الرومان أو الهنود أو الفرس، بل تجرّأت واجتاحت تلك اللغات وغيرها. ولم تضق في هذا العصر بمصطلحات أوروبا وأميركا. وإنما غياب الدولة التي ترعاها وتتبناها هو الذي أبعد العربية عن ميدان العلوم ومصطلحاتها.
واعتماد العربية لتدريس العلوم لا يخدم العربية فحسب وإنما يخدم أيضاً العلوم ودارسيها وتنهض الدولة علمياً لسهولة فهم كل المستجدات والمكتشفات المتتالية بلسان تفهمه... ويفهمها.
ويكون أيضاً باعتماد العربية في واجهات المحال وأسماء الشوارع والأبنية والسلع لئلاّ يستولي على الإنسان، في بلاد العرب مثلاً، الشعور بالتغريب والهزيمة الفكرية والثقافية وهو يسير في شوارع مدينته!!
ويكون أيضاً بتشجيع الدولةِ الدراساتِ اللغويةَ الحضاريةَ التي تُعْنَى بإبراز سعة العربية وغناها ومطاوعتها لكل جديد... والتشتجيع يعني مكافأة أصحاب هذه الدراسات وإبرازها والنفقة على نشرها.
وأما المحور الثاني فيكمن في تعاطي الدولة بقوانينها مع العربية الفصحى في مجال الحماية من اللهجات المحكية.
وهذا يكون بمنع شديد وصارم للإعلانات التجارية المكتوبة بالعامية. لأنها ضربة مباشرة للانتتماء إلى حضارة تمثلها اللغة العربية. قال عوض شعبان: «وقد لوحظ استفحال هذه الظاهرة المرَضية بعد التكريس الرسمي لعروبة لبنان.». (مؤامرة أنصار العامية على الفصحى - مجلة الفكر العربي - العدد 75 - سنة 1994 - ص157).
ودعك من الذرائع القائلة بأن العامية أكثر شعبية وألين وأقرب إلى قلوب الناس أو بطونهم أو جيوبهم.
ويكون تعاطي الدولة مع العامية بالحد من التسويق للبرامج التلفازية العامية. فلقد شاعت نادرة على ألسنة الناس تصف اللغة الفصيحة العربية باللغة المكسيكية. المسلسلات المكسيكية (مدبلجةٌ) بالفصحى، ويُقبِلُ - واخجلي - عليها الناس ويفهمونها... كباراً... وصغاراً. فهل تحتكر المسلسلات المكسيكية الفصحى... تباح لها وتحرّم على غيرها!
كما يكون تعاطي الدولة مع العامية بملاحقة الكتابات المشبوهة المروّجة للعامية وإن تستّرت بحرية البحث. إنها كتابات تعمل على إحياء العظام البالية واللهجات المندثرة أحياناً، أو إحلال العاميات الباقية محلّ اللغة العربية الأم. قال عوض شعبان: «الثابت حتى الآن أن كافة الدعوات لاعتماد اللهجات العامية كأداة للتعبير الرسمي قد انطلقت من مرجعيات فرنسية ذات أهداف سياسية تتوارى خلف دثار فكري...». (مؤامرة أنصار العامية على الفصحى - مجلة الفكر العربي - العدد 75 - سنة 1994 - ص155).
هذا لا يعني العزلة اللغوية، وحرق كل الكتب المكتوبة بحروف لاتينية وقطع الألسن التي تنطق بغير العربية أو رمي أصحابها بالعمالة... فالبديهي أن من تعلم لغة قوم أمن مكرهم. إلا أنه - وهنا يأتي الكلام على المحور الثالث - لا بد من تشريعات إدارية للدولة تقنّن علاقة العربية بغيرها ولا سيما على الصعيد الثقافي التربوي. لا بد أولاً من استحداث مراكز رسمية أو أهلية، لها طابع ثقافي، تكون مؤهلة لإلغاء الحاجة إلى مراكز ثقافية أجنبية تبث غزواً فكرياً. فلتقم مراكزنا - نحن - بالتعليم، تعليم اللغات الأجنبية وتحت إشرافنا.
ذلك أن أكثر المراكز الثقافية الغربية القائمة في بلادنا ينهج منهجاً لا يكاد يتخلف... إذ يبثّ الشعور رويداً رويداً بتفوّق لغته وسَبْقها. كما يعتمد نصوصاً تصوّر أنماط الحياة الغربية ومعتقداتها التي تتنافى والأديان عامةً! فلا بد من أن يكون منهج مراكزنا البديلة مراعاة الواقع الاجتماعي والأفق الذهني السائدين في وجدان الأمة، وإدراج ترجمات لنصوص عربية. وتشجيع ترجمة الدراسات اللغوية التي تبرز خصائص العربية حتى توزّع في البلاد الأجنبية لتكون دعاية للغتنا وحضارتنا.
وكذا لا يصلح أن تكون دراسة اللغة الأجنبية في المدارس مواكبةً لدراسة اللغة العربية لا في عدد الحصص، ولا في السِّنّ التي يُبْدَأ منها بالدراسة. وإلا نقع في ما سماه أحد اللغويين بالزِّنا اللغويّ.
هذه الإجراءات السالفة ورقة عمل إلى الدولة التي تستشعر المسؤولية الحقّة... ولعل من المناسب قبل وضعها موضع التنفيذ إيجاد مناخات ملائمة كالتركيز الإعلامي على دور اللغة في الحضارة، والعمل الجدي على بناء الشخصيات المسؤولة والعقدية في الأمة... وغني عن القول أن وضع هذه الأمور موضع التنفيذ يحتاج إلى الدولة الإسلامية التي تعيد هذه اللغة سيرتها الأولى، لغة الأمة ولغة الدولة ولغة الفقه والعلم والحضارة