ماء قديم
قلت له مازحا – ومزح الرجال جد- بعد افتراق بسبب دراستي خارج البلد: ويل لأجيال تتخرج على يديك، ابتسم ابتسامة عميقة تخفي خلفها ضحكة بانت أطرافها ألما مستفحلا حتى النخاع، فأنا أعلم الناس بطفولته المريرة وشبابه الحائر، ما زال فارع الطول متفوقا عليّ في هذا المضمار رغم الفارق البسيط في الأعمار، وهل بضع سنوات تحسب في عمر الشعوب المكافحة من أجل العيش بسلام على أرض غريبة رغم القرب والوطن في اغتراب!
كان ذلك على إثر طرفة سوقية ذكرتني بسابقة قالها قبل أكثر من عقد متفرعن؛ أيام الطيش المتمرد على واقع تائه عن بوصلة الحقيقة، لا أعلم كيف أنهى الثانوية ولا كلية المجتمع بعدها، لم أكن أتوقع ذلك بكل حال، فـأسلوب الهزر الذي يتظاهر به ببراعة يجعلك توقن أنك أمام إنسان طبل، لكن تلك الأحابيل لم تكن لتنطلي علي؛ فهو يعلم علمي الأكيد بأدق تفاصيل حياتهم، فكم كنا نجلس في بيوت بعضنا كأنها بيوتنا، ولى ذلك الزمن الجميل، هل كان جميلا فعلا، أم أننا تناسينا جراحه ونسيناها، فما عاد يلمع في الذاكرة إلا بعض الومضات السعيدة!!..
في يوم رأيت حزنا حقيقيا يتقاطر منه وقد اغرورقت عيناه، تظاهر جاهدا برباطة الجأش لكن، رأيت الكثير من الحيرة والأفكار المترنحة، وفاة أخيه الأكبر كانت أكبر من استيعابه، لم يكن قد بلغ من العمر عتيا، لم يعان من أي مرض ظاهر، لم يبلغ أحلامه بعد، وقد بلغ أحد أطفاله الثلاثة سن الدراسة، ترملت المرأة وصارت حياتها كرمال الصحراء كان يقول ويضرب كفا بكف، حتى ذلك الوقت لم تكن كلمة الترمل قد بلغت أطراف عقلي..
كنت – رغم ذلك – أعلم أنه سيتفوق على نفسه ويخرج من المحنة أصلب عودا، فقد حدثني في بداية تعارفنا في بداية المرحلة الإعدادية أن النكبة زلزلت والده وأقعدت روحه، كان يهيم من الفجر حتى منتصف الليل ولا يعود بخبز، تابعه ليعرف سبب هذا النحس، الناس تقول أن تجارة الأثاث المستعمل مربحة، ولكن لماذا لا يربح والده... ها هو يبيع ويقبض مبلغا محترما والشمس في صعود، يعرج على بقالة ويخرج منها دون شيء، يستخرج من جيب جاكيته شيئا صغيرا مغلفا، يتناول منه رشفات ثم يعيده وهو سائر.. لعله علاج شعبي فهو يعاني من الربو وغيره من الأمراض، يسهو عنه لحظة لا يجده بعدها، يركض هنا وهناك يبحث بشغف وقلق فلا يجده، تمر الدقائق عصيبة تدحرج الدقائق ولا أثر
يعود إلى مكان الاختفاء، لا يوجد سوى محلات بيع ملابس يتوسطها درج صاعد، كان قد نظر فيها من قبل دون جدوى، يصعد الدرج بهدوء حتى السطح، مقهى ضخم تفوح من رائحة عفنة، يهم بالدخول لكن رجلا ضخما بالباب يطرده، وبينما ينسحب خائبا يغافله وينزلق إلى الداخل بلياقة الشياطين حتى وقف على طاولة الورق، كلهم يضحك إلا أبوه، كان يضع آخر ما يملك من فرح على الطاولة بيد مرتجفة ووجه متجعد الألم شديد، كثيرا ما ينتظر البعض من ينتشله من عجزه، كان يتمنى ألا يكون أبوه وهو يتقدم، لكنه هو هو، عندها ركب الجنون يديه فعمد إلى الطاولة فقلبها رأسا على عقب وهو يصرخ فيه: إن لم تعد إلى البيت الآن فلن تدخله إلا جنازة...
أتذكر كل هذا وأبوه من يومها ملتزم بعمله في المحل الذي افتتحه بعدها، حتى أنه استطاع أن يبني بيتا كبيرا من عدة طوابق في مكان جيد...
لكن عز علي أن أراه على باب نفس المعبد...