كانت الشمس قد استفاقتْ من نومها، وغسلتْ وجهها بندى الفجر، وأخذتْ من زرقة السماء الجميلة طعامَ إفطارها... كان شرابا من نسيمٍ زنبقي وعبير ورد تسلل إلى الشمس العطشى للرحيق...
أماّ البحرُ فكان مترقرقا كعادته، قد صحا من نومه هو أيضا وتناول من يدي الشمس باقةً من الضوء والماء..الرّمل أيضا كان مبلّلا ببوح البحــر...نزعتُ حذائي وقد أغرتني هذه اللوحاتُ الجميلة بالجلوس قليلا بين جوانح الموج علّي أظفر بحديث سرّي لا يهبُه البحر لِأَحد...
أغلقتُ عينيّ، واستسلمتُ بدوري لنسيمٍ دغدغ أجفاني وهدهد لواعجي وسرق قلبي مني ليطير نشوانا مع سرب النورس ...
غفوتُ قليلا يتهدّج بي الصمتُ الجميل تارةً وتبعثني موسيقى الموج تارةً أخرى، تزرعني بحقول الحلم...وفجأة لمحتُ وردةً ملقاةً على الشاطئ، وردةً مبتلّةً يهزّها الموج ثم يذرها تحفر على ذاكرة الصمت بعضاً منها، فكرتُ كثيرا قبل أن أقترب منها وأحملها بين يديّ، نظرتُ إليها وقد لفّني صمتٌ رهيب، أحسستُ وأنا أحدق فيها بأن ثمة سرا يسكنها..أحسستُ بشرارة حزن تنتابني، خفق قلبي حين نطق صمتُها أخيرا... أخرجتْ من الصدف منديلا صغيرا جدا كفكفتْ به قطرات الماء التي كانت تدثـرها، رمقتني بنظرة غارتْ بها كل الأسرار، أطرقتْ هنيهة ثمّ رفعت رأسها وهمستْ في أذنيّ : "كنتُ أنتظـــــرك"..
أدخلتني الحيرة والصمتُ في سراديب لا تنتهي....واصلتْ حديثها قائلةً:
"لا تستغربي..إني أتيتُ من زمن الرحيـل، لم أعرف بأني أُشرفُ على السبعين إلاّ الآن وقد أنهكتني جراحي وأصبح قلبي المُعنّـى عشا أبديا لأسراب السنونو بل لكل الطيور المهاجرة...
قد كنتُ أميرةًَ على الأفراح كلها، أتنقل بين البسمة والخفقــة، أهدي هذا الطفلَ زهرةً وهذا القمر الجريح عطرا، كنتُ أغني في كل مساءاتي نشيد الفجر، أعزفه على القيثارة التي أهدتها لي النجمة الأولى سراًّ، كانت قيثارةً من رحيق البحر...لا يمتلكها غيري في بستان النور..حيث تشدو كل الزهيرات غير آبهة بوجع المساء وقد غطته قطيراتُ الطّلّ.. تغسل كل ما تقدّم من بوحه وما تأخّر...حتى قطفَ ذلك الجرح... قلبــي "
صمتتْ برهةً، وظننتُها لأول وهلة تذرف بعضا من السّجم...خيّم الصمتُ بيننا طويلا ...لم نكن نسمع سوى صوت الموج يتهادى يُمنةً ويُسرة..ونسيم الصمت يلفح وجوهنا بضوء هارب... هزّتْ رأسها قليلا واهتز معه الإكليلُ الذي كان يزين خصلات شعرها..:
" كانت لغتي تقطف من رحيق البستان أجمل ما فيه: الصفاء والبياض والوفـــاء..ظننتُ أنّ زهر الآس أيضا مثلي..لكنني وجدته منتشيا يختال بين الزهيرات تارةً ويحفر على جبينها وشمَ الشجن تارة أخرى...لم تكن لغةُ الرحيق لغتَـــه..لم يكن يهتمّ لأي معنى جميـــل ولا لأيّة لوحةٍ مترقرقــة...كان هديل النّزف يسعده وهو يحصد قلوبَ الجرحى ليزرعها من جديد في حديقةِ انتصاراته...ولأني لم أكن كغيري...آثرتُ الرحيــــل..حتى عن البستان الذي ترعرعتُ فيه...ابتعدتُ عن مراتع الطفولة وعن مرافئ السعـــادة، ابتعدتُ عن ذلك الوادي الذي كنا نجلس على شرفاته أنا ونوْر الرّمّان والنرجس والياسمين...نقطف أطايبَ الشعر والسـرّ، ونكتب على غصن الشجر آمالــنا ومخاوفنا...رحلتُ في قافلةِ النـــوى كرهـــا...تركتُ قلبي وضوء القمر ..تركت ذكرياتي وأحلام صباي وشبابي..تركتُ بعضي ورحلتُ...كنت متأكدة بأني لن أعيش طويلا في ديار النوى.. تساقطت أوراق حياتي كهذا الظـــل......
لماذا ذبلتْ كل باقاتِ البياض؟ لماذا تساقطتْ كل النجوم من ضوئها؟ إذا استطعتِ أن تهدي إليّ جوابا على تساؤلاتي هاته، فقد أعود إلــيَّ مــرة أخرى...وقد تسطيع الشمس أن تجفف بعضـــا من أرقي..."
دغدغتْ موجةٌ صغيرةٌ جدا تصغرني سناًّ أصابعَ قدمـيّ المُبتلّتين، فانتبهتُ لذلك الهمس واستفقتُ من إغفاءتي فجأة أتلفّتُ يمنـة ويسـرة.. كانت الوردةُ ماتزال ملقاة بين ذراعيْ الموج يتقاذفها حينا وحينا آخر يتركها غارقة في وجهها...لقد سمعتُ صوتها !!! سمعتُ خفقان جرحها الذي أزهر بين عينيّ!!! لا يمكن أن يكون كل ذلك مجرد حلم عابــر!!! تأملتُ الوردة، لمحتُ وجهها مخضّبا بسبات عميق...لكني سمعتُ صوتها!!! لقد حدثتنـــي...!
لم أنتبه لصفحة الضوء التي كان الغروب يطويها وقد ارتدى عباءته ...حتى الشمس قد تأبّطتْ حقيبتها الصغيرة ورحلتْ والنعاس ينسج بين جوانحها ألوانا من الحلــــم الوردي...لم أستطع أن أذر الوردة وحدها ملقاة على صفحة المـاء...والسّرُّ المهلهل يبلل وجنتيهـــا... كنتُ أسمع صدى جرحها يتردد بداخلي ويغمرني بالقطــــر.. كنتُ أراها تزرع بين حنايا روحي سرَّهاَ الذي لم تبح به لأحــد غيري...
أخذت الحيرةُ بمجامع روحي: "هل كان حديثي مع الوردة حقا مجرد حلم هارب ...فتح شرفاته لي برهة ثم أغلقها في وجهي؟ أم أننا كناّ حقا على موعد ثنائي مع الجـــرح؟!!