النقد وهجمات الخصوم
قدلا نختلف أن النقد ضروريٌ لاستقامة مسير كل حركة سياسية أو مدرسة فكرية. فالعقل المُنتج والعقل الفاحص يشكلان الرأي والرأي الآخر ومعاً يولدان نظرة شاملة تتناول المادة المُنتَجة بالدراسة والتمحيص من أكثر من جانب لتخرج الفكرة ناضجة. وقد قسم الناس النقد إلى قسمين, بنّاء وآخر هدّام. الأول هو ما نحتاجه دائماً في حياتنا ورحلتنا نحو التكامل بينما الأخير يهدف إلى عرقلة العملية التكاملية بإظهار الحرص الزائف على سلامتها. التفريق بين النوعين خاضع لتحليل النوايا والخلفيات الفكرية لصاحب النقد وأسلوب الطرح. وغالباً ما يشتمل النقد البناء على جزءٍ ولو كان بسيطاًمن الحلول المقترحة بينما يكتفي النقد الهدام بتوجيه اللوم والتذمر.
كثير من الخلق يدعي أنه يتقبل النقد برحابة صدر لكن قلة منهم تعمل بما تقول. فلا الصانع يرضى أن تعلق على جودة سلعته ولا الخباز يقبل بأن تحط من شأن خبزه ولا العطار يسمح لك بأن تستهين بقدر أعشابه وتشكك في خصائصها العلاجية. وكل إنسان هو الأعلم والأفهم والأتقى والأورع والأقوى والأخشع، وأبناؤه هم الأذكى والأجمل، وإنتاجياته هي الأفضل والأجود. فإذا كانت حال هؤلاء وهم من هم من حيث بساطة الصنعة وبُعدها عن التكلف والتعقيد الفكري، فما بالنا بردة فعل المفكرين والمُنَظّرين والفلاسفة وغيرهم ممن قضوا ردحاً من العمرفي التفكير والتنظير؟
قد نتفهم ردّات فعل النوابغ المتشنجة تجاه منتقديهم وإن كان هذا غير لائق لما يفترض بمن في مقامهم من بذل الوسع في البحث عن وجهات نظر المعارضة قبل المناصرة لسد النقص في تنظيراتهم مما فاتت ملاحظته على العقلاء. وهم على أية حال أمضوا عمرهم وأفنوا حياتهم في بلورة آرائهم ولن يكون من السهل عليهم مراقبة جهودهم تضيع ونظرياتهم تتهافت بكل بساطة على يد من يظنونه أقل منزلة منهم. ومن هنا وَجَبَ أن يكون أسلوب الطرح مناسباً لا يثير حفيظة الطرف المقابل ويشكك في قدراته العقلية وكفاءته العلمية بل يأتي في سياقٍ أقرب إلى الاستفهام منه إلى الإملاء ويقوم علىالإقناع لا الجبر وكان هذا مذهب بعض فلاسفة اليونان.
بعض المدارس تدعي أن الانفتاح على الآخر وفسح المجال للرأي المخالف من صميم مبادئها لكنها تصده وتتذرع بالظروف التي يُورَد فيها النقد وإن كان بناءً. فتغلق الباب بوجه من يروم تصحيح الخطأ وإن كان ملموساً ومعترفاً به من قبل مرتكبيه بحجة أن الوقت غير مناسب وأن النقد في ظل الظروف الحالية قد يكون له أثر عكسي فهو يعطي الأعداء فرصة الهجوم وانتهاز فرصة نقد الممارسات للانتقاص من المبادئ الأساسية للمدرسة الفكرية ويفتح ثغرة للتدليل على أن فساد التطبيق من فساد النظرية مما يتسبب في إضعاف المدرسة المعنية. وهذا رأي خاطئ تماماً ولا ينفع في صيانة المعتقدات المراد حمايتها بل قد يساهم في تراكم الأخطاء وتفاقمها ويحول النقد البناء إلى هدّام نتيجة تعصب الأطراف المدافعة والمهاجمة.
إن مما يزيد الطين بلة رمي الناصحين المخلصين بنقصان العقل وسوء النية واتهامهم بالحسد وخبث الطوية وأحياناً بالعمالة وهو ظلم يُرتكب بحق الفكرة السامية مما يسلب ثقة الجموع بالقيادة القائمة. وهو إن كان تصرفاً متوقعاً من قبل الظلمة والمستبدين كعادتهم في عصرنا هذا، لهو غريب على من ينتسب للفكر المحمدي النقي.

إن النقد إذا كان موجهاً إلى ممارسات أفرزها فهم خاطئ لتعاليم أصيلة يجب أن يكون مقبولاً تحت أي ظرف لأن التذرع بالظروف المحيطة وعدم ملاءمتها يرسل إشارة خاطئة مفادها أن الخلل في أصل النظرية وليس في تطبيقاتها.
الفكر لأصيل لا يسلم من الهجوم ، وانتظار الوقت المناسب لطرح الآراء الناقدة في غفلة من هجمات الخصوم قد يطول وقد يكون حلماً بعيد التحقق. أرى أن الحاجة للتصحيح ملحة للتعامل بموضوعية مع محاولات الإضعاف، والوقت ليس مبكراً أبداً لاستبدال السقيم بالمعافى من الأفكار كما يصور لنا بعض المستحوذين على مقاليد الأمور.
إن تدارك الخطأ بمناقشته ووضع الحلول الجذرية يُشَكل مرحلة ضرورية في التكامل ويجعل من السهل التعامل مع أي خطأ مشابه مستقبلاً ولا أعتقد أن عالماً في الكيمياء مثلاً يكتشف خللاً في تجاربه ويصر على تكرارها ضارباً عرض الحائط بنصائح زملائه الذين تيسر لهم التنبه لوجه الخلل في سير العمل فهو المتضرر على أية حال ومن ستتعطل أبحاثه.
(منقول بتصرف )